افراسيانت - وسيم ابراهيم - لحظات عصيبة يعيشها الآن رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس. الرسالة القاسية التي وجهها له زعماء اليورو كانت واضحة: إذا لم تصدق أنك سترى نجوم الظهر، فنحن نساعدك على تخيّل سيناريو اليوم الأسود، إذا لم تقد التنازلات المطلوبة.
تجاوز الأوروبيون المحرّمات. تحدثوا علناً، للمرة الأولى، عن أن سيناريو خروج اليونان بات في الأفق. الأسوأ تأكيدهم أنهم جاهزون لمواجهته، كي يسمع فريق تسيبراس المراهن على عدم استعدادهم لمجازفة كهذه. الحديث عن الخسائر الجيوسياسية، خرج بدوره للعلن، ليكون حجّة رافضي وضع مستقبل الاتحاد الأوروبي في المجهول.
باتت مشاهد القمم الطارئة بثّاً مباشراً حول سياسة حافة الهاوية. أُعطيت أثينا موعداً نهائياً، حتى منتصف ليل اليوم، كي تقدّم خطة تقشف، أو إصلاحات، مقابل برنامج الإنقاذ الجديد، الذي طلبته أمس. غير ذلك، الأمور محسومة وفق تحذير بروكسل وبرلين: دُعي زعماء دول الاتحاد الأوروبي إلى قمة طارئة، تعقد الأحد المقبل، وستكون في حالة الفشل اجتماعاً لإدارة خروج اليونان من اليورو.
وسط هذه التهديدات غير المسبوقة، حافظ تسيبراس على توازنه. ظهوره أعطى نوعاً من التوازن في الصورة، بعدما جعلها نظراؤه ترجح لمصلحة السيناريو الأسوأ. لم يساعد من انتظروا أن يخرج منه ما يحسم هذه المعركة. وقف أمام البرلمان الأوروبي، خلال جلسته العامة في استراسبورغ، معلنا ثقته بأن اليونان ستقدم الإصلاحات وستفي بالتزاماتها.
البعض قرأوا في كلامه هذا بعض الليونة. لكنه، في المقابل، أعاد التأكيد أن ما يسعى إليه هو «اتفاق يضع حداً نهائياً للأزمة، ويظهر أن هناك ضوءاً في نهاية النفق». ردد أنه يريد إنهاء «مختبر التقشف» الذي تحولت إليه بلاده، على يد الدائنين، كما كرر طلبه بأن تحصل أثينا على شطب كبير لديونها، مذكراً بما حصل مع ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
الوقت لم يعد يسمح بهذا التأرجح. بعد فشل قمة زعماء اليورو في التأسيس لتسوية، خرجوا غاضبين، لأن الزعيم اليوناني لم يحضر معه أيّ خطة مفصلة. لم يعرفوا ما هي قروض الإنقاذ المطلوبة، ولا التنازلات الممكن انتزاعها من أثينا لقاءها. أحسوا أنهم استدرجوا من قبل تسيبراس، ليرى ما هم مستعدون لتقديمه أولا، فكانت خطاباتهم تنضح بطفحان الكيل.
طوال الفترة الماضية، كانت القمم الأوروبية التي تناقش موضوع اليونان تقتصر على زعماء منطقة اليورو التسعة عشر، لكون المشكلة تخص العملة الموحدة بالدرجة الأساسية. لكن القمة الطارئة حول اليونان، التي تم الدعوة إليها الأحد المقبل، ستكون لجميع دول الاتحاد الأوروبي الـ28. هذه الخطوة أعطت انطباعاً قوياً بأن دول اليورو جاهزة فعلاً لإخراج اليونان، وبالتالي لمناقشة الكيفية بالتفصيل بين دول الاتحاد.
في هذا السياق، خرق رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر المحظور الذي رسمه سابقاً. في تحذير صارخ لتسيبراس، قال إن لديهم خططاً جاهزة لمواجهة «سيناريو خروج اليونان، وهو معدّ بالتفصيل، وسيناريو بالنسبة لتقديم مساعدات إنسانية».
وقع هذه الرسالة تمت مضاعفته على لسان رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك. حذر من أنه، مع حلول يوم الأحد، سينضج واحد من احتمالين: إما الاتفاق بعد تنازل اليونان وتقديمها خطة تقشف، أو أن هذه الدولة ستواجه «الإفلاس والانهيار المصرفي» مع الخروج من اليورو.
مفترق الطرق هذا يقيم فيه الجميع منذ مدة، وليس هناك، حتى الآن، مؤشرات حاسمة حول الوجهة الأخيرة.
خطاب تسيبراس للبرلمان الأوروبي لخّص قصة بلاده مع فشل الإنقاذ والتقشف. كانت اليونان في وجه المدفع، حينما ضربت الأزمة المالية منطقة اليورو. حصلت أثينا على خطتي إنقاذ، حجمهما نحو 240 مليار يورو. مقابل هذه الأموال، ومعظمها أموال عامة لحكومات اليورو، تم فرض إجراءات تقشف واسع، طالت جميع القطاعات الاقتصادية. الحجّة المستمرة هي ضرورة «إصلاح» الاقتصاد كي ينتج أفضل وليضمن سداد الديون.
لكن «الإصلاحات» لم تحقق أهدافها، بل ضاعفت الآلام الاقتصادية على اليونانيين، مع بطالة قياسية ومدخول جعل مئات الآلاف يعيشون تحت خط الفقر. الغضب الشعبي أوصل إلى السلطة حكومة حزب «سيريزا»، قبل نحو 6 أشهر، حاملة مطالب شعبية جعلتها تصطدم مع مهندسي التقشف، في برلين وبروكسل.
يوم أمس وصلت القصة إلى فصلها الأحدث. قدمت أثينا طلباً رسمياً لخطة إنقاذ مالية ثالثة، من صندوق الإنقاذ المالي لمنطقة اليورو، تمتد لثلاث سنوات. لم تحدد حجم القروض المطلوبة، لكن ثمة تقديرات رائجة بأنها نحو 50 مليار يورو.
لكن أن تملك قصة عادلة، كما حال حكومة «سيريزا»، لا يعني بالضرورة أن تحصل على الإنصاف. الزعيم اليوناني الآن على محك حاسم. قيل له إن هناك مخرجاً وحيداً، يمكنه فقط توفيره عبر تنازلات مؤلمة. المسألة تتطلب ما يشبه «معجزة سياسية». شعبه رفض بصلابة المزيد من التقشف، كما ظهر في استفتاء الأحد. لكن المطلوب منه الموافقة على تقشف «حتى يتجاوز الإجراءات السابقة» التي رفضها اليونانيون، وفق تحذيرات برلين وبروكسل.
العناوين التي يمكن لتسيبراس عبرها تبرير الصفقة، سحبتها منه برلين. لا رغبة في منح أدنى انتصار لحكومة يسارية، يمكن أن تصبح مثالا يحتذى. كان تسيبراس يلوّح بإمكانية تسوية، يقبل عبرها إجراءات قاسية، لكن مع شطب قسم معتبر من الديون العامة الهائلة. صندوق النقد الدولي قال بدوره إن ديوناً إجمالية، بنحو 340 مليار يورو، تشكل تقريبا 170 في المئة من الناتج المحلي اليوناني، هي ببساطة ديون لا يمكن احتمالها. لكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ترفض ذلك بشدة. قالت إن شطب الديون هو مسألة «خارج النقاش».
هناك ثغرة ممكنة، عبر مقايضة القبول بالتقشف مقابل خطة استثمارية كبيرة. تسيبراس ذاته أوحى بإمكانية ذلك خلال خطابه أمس. لكن هذا لا يلغي المأزق السياسي: ماذا سيقول لليونانيين إذا قبل حتى أكثر مما رفضوه مسبقا؟
وسط هذه الأجواء القاتمة، بات الحديث عن عواقب الخروج من اليورو يركز على الخسائر الجيوسياسية. ضغوط الرئيس الأميركي باراك أوباما لم تحدث خرقاً واضحاً، رغم محادثتيه الهاتفيتين مع ميركل وتسيبراس. خشية واشنطن تشمل الخوف على تعافيها الاقتصادي من حدوث أزمة جديدة، إضافة إلى الخشية من تقارب اليونان مع روسيا والصين إذا ضحّى بها الأوروبيون خارج اليورو.
وزير الخزانة الأميركي جاك لو استخدم مكبرات الصوت لإذاعة تلك المخاوف. قال، في مؤتمر أمس، إنه يجب الوصول لاتفاق لأن ذلك «ضروري للاستقرار الاقتصادي والجيوسياسي لأوروبا». على المنوال ذاته، باريس تواصل وضع ثقلها لتفادي سيناريو الخروج. اعتبر رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس أن بقاء اليونان في اليورو له «أهمية سياسية وجيوستراتيجية قصوى»، لافتا إلى أن خروجها سيعني إقرار أوروبا «بالعجز» وهذا «مرفوض» فرنسياً.
التأثيرات التي تحدث عنها فالس شملت التوترات مع روسيا، إضافة إلى مواجهة «تدفقات من اللاجئين». الإشارة الأخيرة كانت لافتة فعلا. خلال الهجوم الذي تعرض له تسيبراس من خصومه السياسيين، في البرلمان الأوروبي، انتقد أحدهم ما قال إنه «تهديدات» اليونان بفتح البوابة لسيل مهاجرين، وبينهم «إرهابيون».
من قال ذلك ليس أيّ سياسي: إنه الألماني مانفريد ويبر، رئيس كتلة عائلة أحزاب «المسيحيين الديموقراطيين» (حزب ميركل) في البرلمان الأوروبي. ربطاً بذلك، أمكن رؤية المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب جيل دو كيرشوف، يدخل إلى المبنى الذي اجتمع فيه وزراء مالية منطقة اليورو أمس الأول. كانوا يناقشون كل احتمالات أزمة اليونان، لكن لم يتسن التثبّت من وجود صلة مباشرة.
ربما من المفيد هنا ذكر ما قاله شارل ميشيل، رئيس الوزراء البلجيكي، بعد فشل قمة اليورو. احتج على الخيارات التي وضعتهم اليونان أمامها قائلا إنه لا يمكن لتسيبراس «أن يضع المسدس فوق رؤوسنا أو السكين في أعناقنا».
ساعة الحسم لم تدق بعد: إما الاتفاق المؤلم، أو سيناريو اليوم الأسود للخروج. الأخير سيتضمن مدّ العون لأثينا، لكن من أموال الاتحاد الأوروبي، وليس عبر أموال إنقاذ دول اليورو. مصدر أوروبي مطلع على أجواء التفاوض أكد، لـ «السفير»، أن خطة المساعدات الإنسانية ستكون جزءاً من «خطة بديلة» لتخفيف الآلام التي ستتعرض لها اليونان، خصوصاً أن مصارفها المغلقة باتت توشك على الانهيار. البنك المركزي الأوروبي تعهد بإبقاء السيولة الطارئة على مستواها، حتى الأحد، بحيث بالكاد تكفي لعدم انهيار النظام المصرفي اليوناني.
رغم كل هذا الضجيج، لكن هناك بعض المتفائلين. رئيس الوزراء الايطالي ماثيو رينزي اعتبر أن المهم إنقاذ أوروبا وليس فقط اليونان. بلاده، مثل فرنسا مع بقية دول الجنوب الأوروبي، تحاول استخدام موقعة اليونان لتعيد توجيه المشروع الأوروبي. الهدف طبعا التركيز على النمو وخلق فرص العمل، وليس على التقشف وضوابط الموازنة كما تشدد برلين صاحبة شعار «لا عودة للنمو عبر الاستدانة».
سألت «السفير» رينزي، كيف يمكنهم حل مشاكل أوروبا إذا لم يستطيعوا حل مشكلة اليونان، فقال «أعتقد أنه يمكننا إيجاد حل لليونان. لست متشائماً حول ذلك، لكن حتى لو لم نجد حلاً لليونان، وإذا لم نستثمر بنهج مختلف في كل المجالات، فلا يمكن حل مشكلة أوروبا».
نشر هذا المقال في جريدة السفير