افراسيانت - "الحريق" الذي تمّ إخماده في قضاء طوزخورماتو بجهود ووساطات سريعة، لم يلبث أن شبّ مجددا في منطقة السعدية، في دليل على عدم جدوى المعالجات السطحية للصراعات الداخلية في العراق ذات التشابكات العرقية والطائفية والامتدادات الإقليمية.
فقد امتدت الاشتباكات بين الميليشيات الشيعية وقوات البيشمركة الكردية إلى ناحية السعدية بمحافظة ديالى العراقية، وذلك فيما كان الهدوء الحذر يخيّم على قضاء طوزخورماتو بمحافظة صلاح الدين المجاورة بعد اشتباكات بين الطرفين خلفت قتلى وجرحى، واعتبرت مؤشرا خطرا على صراع مذهبي عرقي تغذيه المطامع الإقليمية، وقد يكون عنوان مرحلة ما بعد الحرب على داعش في العراق بما أفرزته من تغوّل قوات غير نظامية منفلتة من رقابة الدولة، في مقابل تراجع مكانة القوات المسلّحة العراقية وسقوط هيبتها.
ودارت الاشتباكات بين مسلحي البيشمركة الكردية وسرايا الخراساني الناشطة ضمن الحشد الشعبي الشيعي في ناحية السعدية التابعة لقضاء خانقين والتي تبعد حوالي مئة كيلومتر شمال شرق بعقوبة مركز محافظة ديالى ويقطنها خليط من العرب السنة والكرد السنة والكرد الشيعة الذين يعرفون بالكرد الفيلية إضافة إلى عدد محدود من التركمان.
وتؤشّر هذه “الحرائق الصغيرة” المتنقلة عبر مناطق العراق إلى الضرر البالغ الذي لحق بوحدة المجتمع العراقي شديد التنوّع، وهو ضرر يتجّه نحو بلوغ درجة الانفجار بفعل ما هو قائم من فوضى السلاح، وكثرة الأجسام شبه العسكرية غير النظامية، فضلا عن وفرة عوامل التوتر من عداء طائفي وعرقي ومن تدخلات إقليمية تترجم حجم المطامع في العراق الضعيف.
وتصنّف منطقة السعدية ضمن المناطق المتنازع عليها بين حكومتي بغداد وإقليم كردستان، مثل منطقة طوزخورماتو الذي يعيش سكانه على وقع الخوف من تجدّد القتال فيه بين قوات البيشمركة وفصائل تركمانية من الحشد الشعبي بعد التوصّل إلى وقف إطلاق نار هشّ بتدخّل من محافظ كركوك نجم الدين كريم وقائد ميليشيا بدر هادي العامري.
وأسفرت المواجهة عن مقتل ما لا يقلّ عن ثمانية أشخاص من الطرفين بينهم ضابط في قوات البيشمركة برتبة عميد، وأدّت إلى قطع الطريق الرابط بين العاصمة بغداد ومدينة كركوك مركز المحافظة التي تحمل نفس الاسم وهي بدورها موضع نزاع بفعل غناها الشديد بالنفط.
وتقاتل قوات البيشمركه الكردية والحشد الشعبي، عدوا مشتركا هو تنظيم داعش. لكنّ كلا من الطرفين يبحث عن السيطرة والنفوذ في بعض المناطق بينها بلدة طوزخورماتو، الأمر الذي أدّى إلى تكرار وقوع الاشتباكات بين الجانبين.
وأصبح العنف في قضاء الطوز يتكرر بصورة شبه شهرية بين الجماعات المسلحة المتحالفة على مضض في مواجهة تنظيم داعش وذلك منذ طرد المتشددين من بلدات وقرى في المنطقة عام 2014.
لتركيا مصلحة في إضعاف كردستان العراق الذي تعلن الصداقة لبعض قياداته وتضمر التوجس من سعيهم للاستقلال
وكانت طوزخورماتو الواقعة على بعد نحو 175 كيلومترا شمال العاصمة بغداد قد شهدت اشتباكات مماثلة بين البيشمركة ومقاتلي الحشد الشعبي في نوفمبر من العام الماضي وأدت إلى سقوط 17 قتيلا، على خلفية إطلاق نار بين قوة كردية ودورية للحشد وسط القضاء.
ويعتبر قضاء طوزخورماتو نموذجا عن تنوع التركيبة السكانية في العراق، فقوميا تتعايش داخله قوميات الكرد والعرب والتركمان، ومذهبيا يتعايش داخله السنّة والشيعة.
ويتوزّع التركمان طائفيا بين المذهبين الشيعي والسني. ويمارس الحراك السياسي والعسكري القومي والمذهبي لتركمان الطوز وجلولاء والسعدية دورا مزدوجا.
فللحراك التركماني، حسب مصادر كردية، امتدادات خارج البلاد مرجعياتها في أنقرة من بينها “الجبهة التركمانية”. أمّا مذهبيا فالحشد الشعبي التركماني شيعي، وهو يعمل بالتنسيق مع أنقرة وطهران.
وأكّدت ذات المصادر أن للعاصمتين مصلحة وفق أجنداتهما في تحويل ما هو متنازع عليه في العراق إلى صراع كردي شيعي من خلال جرّ الحشد لقتال البيشمركة، مشيرة إلى “تضافر جهود المرجع الشيعي علي السيستاني، ورجل الدين البارز مقتدى الصدر وهادي العامري نائب قائد الحشد الشعبي، إضافة الى قيادة البيشمركة وقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني في نزع فتيل أكثر من مواجهة”.
لكن القيادات المحلية متعددة الانتماءات في المنطقة -تستدرك المصادر ذاتها- لا تثق بوقف إطلاق النار الهشّ المعلن في طوزخورماتو، وتعتبر أن الحرب ستعود وقد يتفاقم وقعها أكثر لأن العلاجات الحالية هي تخديرية مؤقتة لا تعالج الأسباب الحقيقية.
وتتهم أوساط كردية تركيا بأن لها مصلحة كبيرة في خلق الأزمات في هذه المنطقة بغية إضعاف إقليم كردستان الذي تعلن أنقرة الصداقة لبعض قياداته لكنّها تضمر التوجّس من سعيهم لتأسيس دولة كردية مستقلّة في المنطقة.
كما أن كردستانا ضعيفا يعني مواصلة تركيا فرض شروطها في ملف الحرب ضد قوات حزب العمال الكردستاني التي تطاردها تركيا بكل حرية برّا وجوّا داخل أراضي الإقليم.
وتذهب بعض الأوساط الكردية العراقية حدّ الغمز من قناة تواطؤ تركيا مع تنظيم داعش، ومشاغلة البيشمركة بمواجهة مع الحشد التركماني عشية معركة تحرير مدينة الموصل التي لا تريد أنقرة لها أن تحسم بنصر للقوات الكردية تكرّس مزيد ظهورها كقوّة منظمة تمثل عمودا فقريا لدولة مستقلة.
ولا تغفل المصادر الكردية عن التذكير بأن لإيران مصلحة أيضا في صراع الحشد ضد البيشمركة “بغية إضعاف أكراد الجنوب”، وترى هذه المصادر أن الحشد الشعبي الذي يضم التركمان الشيعة يهدف إلى خلق حرب بين الشيعة والأكراد، فيما القوميون التركمان يحاولون من خلال تحالفهم مع القوميين العرب تحويل الصراع إلى عربي كردي أيضا.
العرب اون لاين