رحلة البحث في تاريخ «متحفٍ» اختفى

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 


افراسيانت - إبراهيم شرارة - ذات يوم من العام 2008، وقع بين يدي رشا سلطي بالصدفة، في أثناء عملها في بيروت، كتيّبٌ يجمع صور لوحات وأسماء فنانين شاركوا في تظاهرة فنيّة ضخمة، حملت اسم «المعرض التشكيلي الدولي من أجل فلسطين» يعود تاريخه إلى العام 1978. احتفظت القيّمة والباحثة بصورٍ عن الكتيّب في أرشيفها الخاص.


في الفترة ذاتها، تصل كريستين خوري إلى بيروت. وهي قيمة ثقافية وباحثة لبنانية الأصل، كانت قد أنهت دراسة تاريخ الفن في «جامعة شيكاغو»، وانتقلت لتعمل في عمان.


جمعت صدفة العمل المشترك في ذلك العام بين الباحثتين. ومع العمل، نشأت بينهما صداقة أضاف الشغف بتاريخ الفن في العالم العربي سحراً خاصاً إليها.


بدأت رشا سلطي وكريستين خوري بحثاً مشتركاً حول تظاهرة الأونيسكو الفنية الأولى في لبنان، التي عقدت في العام 1975، وهي مستوحاة من فكرة طرحها الكاتب الفرنسي أندريه مالرو عن الـ«متاحف بلا جدران». هذه الفكرة ستظهر مرّة أخرى في بحثهما الذي سيقررّان الانطلاق به، بعد قليل.


إذ لمّا عرضت سلطي على خوري اكتشافها الخاص، أي كتيّب المعرض، اتضح أنه سيصير بعد هذا اليوم دليلهما في رحلة اكتشاف تاريخ ما كان يُفترض أن يصير «متحف فلسطين الدائم».


وجدت الباحثتان في الكتيّب ما تسمّيانه «مجموعة ثمينة من الأدلة»، شكّلت مدخلاً للبحث: لائحة بأسماء المشاركين في المعرض، لائحة ثانية بأسماء اللوحات، وثالثة بأسماء أشخاص استحقوا الشكر.


أجرت الباحثتان مقابلة مع الفنانة الفلسطينية منى السعودي التي ورد اسمها في الكتيّب. وكانت السعودي تتولى مسؤولية إدارة قسم الفنون التشكيلية في مكتب الإعلام الموحّد في «منظمة التحرير الفلسطينية» في فترة تنظيم المعرض. لكن الباحثتين عادتا من اللقاء بقصصٍ صغيرة لا تكشف تاريخاً.


سألتا أشخاصاً آخرين، من دون نتائج تذكر.


كأن المعرض سقط من ذاكرة أهل ذاك الزمن.


في بحثٍ سابق لسلطي تناول تاريخ الملصق السياسي في العالم العربي، تردّد اسم عز الدين القلق مراراً. هذا اسمٌ محوري، سيطلّ هو أيضاً بعد قليل في حياة الباحثتين.


وفي البحث ذاته، ورد اسم كلود لازار: فنان فرنسي شهير، كان صديقاً لعز الدين القلق، وارتبط اسمه بفلسطين.


في كتيب المعرض يرد اسمه أيضاً.


لا بدّ من السفر إلى باريس، إذاً.


جمعت الباحثتان المستقلتان بعض المال وسافرتا. طلبتا موعداً من لازار. استقبلهما سريعاً، فتغيّر كل شيء. إذ أخرج الفنان الفرنسي من أرشيفه صوراً، ومقتطفات من الصحف، ووثائق قديمة، كان وزّعها في علبٍ ثلاث.


في هذا اللقاء، فتح لازار أمام الباحثتين علبه الثلاث التي ظلّت مقفلة طيلة ثلاثين عاماً.


من باريس .. إلى بيروت


ترك عز الدين القلق دمشق التي وصلها لاجئاً في العام 1948، وسافر إلى فرنسا لمتابعة دراساته العليا في العام 1964. انضمّ إلى «حركة فتح» في أثناء دراسته، وانتخب رئيساً لـ«اتحاد طلبة فلسطين» في فرنسا سنة 1969، في الفترة التي كان فيها التعاطف اليساري مع الثورة الفلسطينية يتبلور ويتعمّق في الأوساط الفرنسية. وبعد اغتيال المناضل محمود الهمشري في العام 1973 على يد المخابرات الإسرائيلية، عيّن القلق ممثلاً لـ«منظمة التحرير الفلسطينية» في باريس.


كانت باريس في تلك الفترة تغلي. المدينة التي عاشت للتوّ ثورة العام 1968 صارت عاصمة للمناضلين الحقوقيين والمثقفين الهاربين من الاضطهاد. برزت في تلك الفترة حركات فنيّة سياسية، من بينها ما بعرف بـ«الرسامين الشباب»، أو «Jeune Peinture». مثّلت الحركة مظلّة لمجموعات مستقلة، تناضل من أجل قضايا العمال والبيئة وحقوق المرأة وضد الحرب في فييتنام.. فتشكّلت مجموعة تضمّ رسامين عرباً وأجانب قضيتهم الأساسية فلسطين. من بين هؤلاء، كان الفنان الفرنسي الشهير كلود لازار.


لم تكن مجرّد صدفة تلك التي جمعت القلق بلازار، لكون القلق اهتم بالتواصل مع المثقفين الذين اتخذوا باريس مقراً لنضالاتهم. نسج علاقات مع فنانين يساريين من العالم، وارتبط اسمه بـ«كرّاسات السينما» أو « Les Cahiers De Cinema». نظّم زيارات لسينمائيين في لبنان وسوريا والأردن، ثم في فلسطين، فصنعوا فيلماً عنها بعنوان «شجرة الزيتون». وفي العام 1973، بعدما أطاح بينوشيه بسلفادور أليندي، تعرّف القلق على مجموعة فنانين من تشيلي تنضوي تحت إطار «Jeune Peinture». قرّر هؤلاء تنظيم تظاهرة فنّية مقتبسة من فكرة «متحف بلا جدران»، تكريساً لذكرى ألندي ورفضاً للدكتاتورية الناشئة في تشيلي. قامت الفكرة على جمع لوحات من فنانين عالميين، لتشكل متحفاً يسافر حول العالم، إلى أن يسقط نظام بينوشيه، فيعود المتحف إلى حيث يفترض أن يكون: تشيلي الحرّة.


أعجب عز الدين القلق بتجربة التشيليين: هذه فكرة مناسبة تماماً لفلسطين.


هذه هي رواية كلود لازار.


روايةٌ أخرى تنقلها الباحثتان عن الفنان الفلسطيني سليم سلامة.


أنهى الشاب سلامة اللاجئ في سوريا دراسته الجامعية في العام 1972، وانتقل منها إلى بيروت. التحق بدائرة الإعلام الموحّد التابعة لـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، وأسّس قسم الفنون التشكيلية الذي تسلّمت مسؤوليته بعده الفنانة منى السعودي. في العام 1973، شارك في مؤتمر الفنانين العرب في بغداد، الذي أسفر عن تأسيس «اتحاد الفنانين العرب».


طرح سلامة على المشاركين في المؤتمر أن تستضيف متاحف الفن الحديث في العالم العربي لوحات لفنانين فلسطينيين، كاعتراف وتأكيد على وجود فلسطين.
لم تلقَ فكرة سلامة قبولاً في المؤتمر.


بعد عام، حمل فكرته معه، وانتقل إلى فرنسا لمتابعة دراسته. في باريس، التقى بعز الدين القلق، فأعاد طرحها عليه.


روايتان من بين روايات كثيرة يلتقي معظمها عند اسم واحد: عز الدين القلق.


تبنّى الرجل الفكرة. اتصل بمنظمة التحرير، وبدأت مسيرة الإعداد للمعرض الذي تقرّر أن يكون ملحقاً بقسم الفن التشكيلي في مكتب الإعلام الموحد، بدلاً من المكتب الثقافي.

كنز فلسطين الذي اختفى
التاريخ: 21 آذار من العام 1978.
المكان: قاعة جمال عبد الناصر في «جامعة بيروت العربية».


في الخارج، أخبارٌ يتناقلها شبان وشابات عن خطوط المواجهة مع العدو الإسرائيلي الذي اجتاح جنوب لبنان، وأصوات طائرات حربية تحلّق فوق سماء بيروت. وفي جانب آخر من المدينة، مقاتلون يتجهّزون عند خطوط تماس رسمتها حرب أهلية صار عمرها الآن ثلاث سنوات.


دقائق تفصل الجمهور عن الحدث المرتقب.


يفاجئ أبو عمار الجميع بحضوره بين حشد من الفنانين والإعلاميين والمثقفين من جميع أنحاء العالم، لافتتاح «المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين».


بعد أشهر من هذا اليوم، وتحديداً في الثاني من آب 1978، ستغتال المخابرات الإسرائيلية عز الدين القلق في باريس، المدينة التي بدأ منها رحلة التحضير للمعرض، قبل أن تستكملها الفنانة منى السعودي التي تولت إدارة قسم الفن التشكيلي في العام 1977.


يتذكّر الفنان الفلسطيني ناصر السومي، في شهادة له حول المعرض، أن فنانين ونقّاداً من بلاد عربية وأجنبية حضروا للـــمشاركة في الافتتاح. يذكر من بينهم الناقد الفرنســـي ميشيل تروش، والفنان الإيطالي باولو غانا والفرنسي كلود لازار.


بحسب بطاقة الدعوة التي حملها المدعوّون، سيستمر هذا الحدث الثقافي حتى الخامس من نيسان. في السابع من نيسان، أجرت جريدة «النداء» لقاء مع كلود لازار، «أحد الفنانين التشكيليين الفرنسيين المشتركين في المعرض المقام حالياً في جامعة بيروت العربية»، ذكرت في مقدمته أن المعرض «يستمر حتى الخامس والعشرين من هذا الشهر»!
هذا تفصيل من تفاصيل كثيرة سيكون من الصعب التثبت من صحتها اليوم.


تفصيل آخر أكثر أهمية يظلّ غامضاً حتى الآن:


في كتيّب المعرض، أسماء 177 فناناً وفنانة من 28 دولة، تبرّعوا بـ194 لوحة وعدد من المنحوتات. لكن الكتيّب وحده ليس دليلاً كافياً لإحصاء عدد لوحات «متحف فلسطين». فهو طبع قبل الانتهاء من تجهيز المعرض. وفي الأسابيع التي تلت الافتتاح، أضيف إلى اللوحات التي عرضت عدداً كبيراً من الأعمال التي أحضرها أصحابها أو أرسلوها لتنضم إلى لوحاته. منها، مثلاً، 20 عملاً قدمها فنانون شاركوا في «موسم أصيلة الثقافي الأول» في المغرب خلال العام نفسه، ويذكر ناصر السومي منها أعمالاً للفنانين محمد عمر خليل ورودولفو أبولاراج.


انتهت محطة بيروت، وبدأت رحلة المعرض حول العالم.


في العام نفسه، سافرت بعض اللوحات إلى اليابان لتعرض في جناح خاص في متحف طوكيو للفن الحديث. وبعد عام، عرض جزء من اللوحات في معرض طهران للفن الحديث. وفي العامين 1981 و1982، أقيم معرضان في النروج، ضمّا لوحات لفنانين فلسطينيين شاركت في معرض بيروت.


في صيف العام 1982، حاصرت قوات الاحتلال الإسرائيلي العاصمة ودمّرتها. قصف المبنى الذي كان يضمّ مكتب الإعلام الموحد، مقابل جامعة بيروت العربية.. اختفت الوثائق الخاصة بالمعرض، أو أتلفت. ومعها، اختفى المعرض الذي كان يفترض أن يشكّل نواة «المتحف الفلسطيني الدائم».


متحف بأبواب كثيرة


تعود رشا سلطي وكريستين خوري إلى المرحلة التي سبقت افتتاح المعرض. ترويان ما توصّل إليه بحثهما في الظروف التي رافقت الإعداد له. في غياب المعلومات الوافية، توصّلتا إلى أن شبكة علاقات هائلة ومتداخلة أسهمت في تأمين مشاركة عالمية واسعة.


بحثتا في القواسم المشتركة بين أسماء الفنانين المشاركين. بعضهم كان ينتمي إلى مجموعات فنية من مختلف أنحاء العالم. مجموعات «ملتزمة» يتداخل في عملها النشاط الفني بالسياسي، توّلت مهام «التعبئة على الأرض». مستوى آخر من الاهتمام ساهم في نجاح المعرض: تفعيل نشاط ممثلي «منظمة التحرير» في عدد كبير من الدول، كما في أوروبا الشرقيّة مثلاً. بعض خيوط البحث قادت إلى اليابان (التي شارك منها عدد كبير من الفنانين)، وتحديداً إلى العلاقة الخاصة التي جمعت بين «الجيش الأحمر» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» و«منظمة التحرير». خيط آخر قاد إلى جمعية فنون يابانية آسيوية افريقية لاتينية، وهي جمعية فنية يابانية «عالمية» تستثني من اهتمامها أوروبا وأميركا الجنوبية.


وإلى هذه العلاقات، أدّى الأصدقاء المشتركون في هذه الشبكات دوراً في تشجيع فناني العالم على المشاركة.


هذه الشبكة هي واحدة من اهتمامات البحث الذي تجريه رشا سلطي وكريستين خوري، فهي تعيد الاعتبار للعلاقة بين الجنوب وبين الشمال، وبين الشرق وبين الغرب. تلك العلاقة التي جمعت بين مناضلين متساوين في التزامهم السياسي والإنساني.


البحث فتح باباً آخر: تعيد الباحثتان اليوم كتابة تاريخ المعرض من خلال علاقته بالمعارض والنشاطات الثقافية التي أقيمت في تلك الفترة.


هذه بعض ملامح التاريخ المشترك بينها:


في العام 1973، قرّر اتحاد الفنانين العرب، الذي تشكّل في العام نفسه، إقامة معرض كل عامين. أقيم المعرض الأول في بغداد سنة 1974، والثاني في الرباط سنة 1976. كشف البحث عن لوحات لفنانين عراقيين عرضت في بغداد وقدمت هديّة إلى متحف فلسطين. ومن الرباط أيضاً، سافرت لوحات لفنانين عرب لتستقر في معرض بيروت.


لا ينتهي البحث هنا. يقود كتيّب المعرض إلى إيطاليا. تاريخ آخر تتشابك خيوطه مع تاريخ معرض بيروت. برزت في تلك الفترة مجموعة فنانين مستقلين اهتمّت بقضيتي تشيلي وفيتنام. تعرفت المجموعة على فلسطين في مطلع السبعينيات وتبنّت قضيتها. قادتها إلى ذلك العلاقات التي جمعت بينها وبين «الرسامين الشباب» في باريس.


في العام 1976، قدّمت المجموعة عملاً في الساحات العامة بطلب من «معرض فينيسيا»، وأهدته إلى «تل الزعتر»، المجزرة التي وقعت في العام نفسه. بعض لوحات هذا العمل سنجدها بعد عامين في بيروت.


تتابع الباحثتان الإمساك بخيوط الشبكة. تنتقلان إلى تاريخ المتحف الخاص بتشيلي، ثم إلى متحف الفن ضد الفصل العنصري، ومنه إلى نشاطات ومعارض أخرى جمعت أعمال فنانين عالمين ناضلوا ضد الإمبريالية، من كوبا إلى فيتنام إلى النضال ضد التمييز العنصري في جنوب افريقيا.


ولهذه العلاقات امتداد آخر، فنّي هذه المرة. إذ تشرح الباحثتان باختصار عن التيارات الفنّية التي كانت سائدة في العالم في تلك الفترة. اليسار الراديكالي في أوروبا الغربية مثلاً، كان يقول إن الفن التجريدي برجوازي. وأقسى الراديكالية حينها كان يقتضي الالتزام بالفن التصويري. السريالية كان لها حيزّ خاص، وهو حيز راديكالي يساري أيضاً. وفي الجانب الخاضع للاتحاد السوفياتي من أوروبا الشرقية، كان الفن الذي يحظى بموافقة «الحزب الشيوعي» هو فن الواقعية الاجتماعية، أما التجريدي فكان يعتبر فناً برجوازياً كذلك.


في المقابل، جنوباً، كما في المغرب مثلاً، بعد الاستعمار أو في بدايات الاستقلال، كانت النظرية السائدة تقول إن الفن في هذا البلد إما فطري أو تصويري. فنانو المغرب الراديكاليون رفضوا هذا التوصيف. وخلافاً ليساريي الشمال، تبنّى يساريو المغرب الفن التجريدي، بوصفه اللغة الجديدة المستقلّة في الفن.


هذا عالمٌ آخر أتاحه معرضٌ أقيم من أجل فلسطين، جاور تيّارات الفن ومدارسه على جدران قاعة واحدة، في بيروت.


جميع هذه الأبواب وسواها، ستُفتح في قاعةٍ في متحف برشلونة للفن المعاصر، في مطلع العام المقبل. إذ تقوم فكرة المعرض الذي تنوي الباحثتان تنظيمه على اكتشاف العوالم المتداخلة التي تناولها البحث في تاريخ «المعرض التشكيلي الدولي من أجل فلسطين»، من دون الخوض في مصيره. ومن برشلونة، تأملان أن ينتقل معرضهما إلى بيروت وباريس وفلسطين.


إلى ذلك الحين، تظلّ لوحات «متحف فلسطين» مجهولة المصير. 19 لوحة منها فقط عادت إلى الحياة، كما يسجّل السومي في شهادته التي يعرض فيها مسعاه في كشف هذا المصير، مع منى السعودي وغيرها ممن تولّوا مسؤولية الحفاظ على اللوحات. وحتى لا تتلاشى الذاكرة التي راحت تفاصيل ذلك الزمن تسقط منها، هذه دعوةٌ توجّهها الباحثتان لكل من يمتلك معلومة حول المعرض الذي أقيم قبل أكثر من 35 عاماً، لمراسلتهما عبر العنوان الإلكتروني التالي:


عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

 

©2024 Afrasia Net - All Rights Reserved Developed by : SoftPages Technology