افراسيانت - ماذا يمكن أن ينتظره رئيس بنى حملته الانتخابية على خطاب وصف بالكراهية والسعي إلى إثارة النعرات العنصرية والأحقاد العرقية وإيقاظها من تحت رماد ذاكرة ما زالت متخمة بالجراح؟ لعلّ أفضل تعليق يمكن قوله لليمين المتطرف ودعاة الكراهية هو المثل الشائع “من يزرع الشوك يجني الجراح”.
هل يظن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أنه بات بمنأى عن الانتقادات وردات الأفعال والتيارات المضادة لمجرد وصوله إلى البيت الأبيض وترأسه لسدة حكم أكبر دول العالم نفوذا وسطوة وأكثرها تشعبا وخطورة في سياساتها الداخلية والخارجية؟
أعمال عنف حدثت أخيرا في مدينة شارلوتسفيل في ولاية فيرجينيا الأميركية وأدت الى مقتل امرأة في الثانية والثلاثين من العمر، عندما صدمت سيارة حشدا من المتظاهرين المعارضين لتجمع لليمين المتطرف في شارلوتسفيل، بينهم أعضاء في مجموعة كو كلوكس كلان العنصرية، كما أدى الحادث إلى اصابة 19 شخصا آخرين بجروح أضيفوا إلى جرحى آخرين أصيبوا بسبب المواجهات التي جرت.
أحداث شارلوتسفيل، المدينة التي تضم 50 ألف نسمة، ويصوّت سكانها بشكل ساحق إلى جانب الديموقراطيين وهم معروفون بانفتاحهم، ويفتخرون بجامعتهم التي أسسها عام 1819 الرئيس توماس جيفرسون، هذه الأحداث دعت إلى طرح السؤال الجوهري: هل شجعت لغة ترامب المناهضة للأجانب المتطرفين اليمينيين وسهلت انتقالهم إلى التحرك؟ كل المؤشرات تدل على ذلك، فهذه الاضطرابات الدامية، والمرشحة للتصعيد، قابلها ترامب من نادي الغولف ـ حيث يمضي إجازت ـ بكلمة باهتة وقد حاول أن يمسك العصا من الوسط، مكتفيا بتحميل الطرفين المتواجهين المسؤولية نفسها، ووقف “خصما وحكما” أمام جموع المتضررين في كراماتهم وحرماتهم وحرياتهم.
خيّب ساكن البيت الأبيض آمال الكثير من الأميركيين الذين كانوا ينتظرون من رئيسهم إدانة واضحة وشديدة لهذه المنظمات المتطرفة التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض وتزدري الأعراق الأخرى في سفور عنصري واضح، يكشر عن أنياب التطرف، وفي حادثة تعيد إلى الأذهان أكثر صفحات التاريخ الأميركي ظلمة ودموية.
طريقة دونالد ترامب في الإدانة قطرة قطرة لا تبرئه من تبعات سياسة رسمها لنفسه منذ بداية تحضيره لحملته الانتخابية.
قال ترامب من بدمينستر في ولاية نيوجيرزي السبت الماضي، وبلغة رخوة تشبه لكنة شهود الزور “ندين بأشد التعابير الممكنة تظاهرة الكراهية الضخمة هذه، والتعصب الأعمى وأعمال العنف من أي جهة كانت”.
هكذا يستوي الحمل مع الذئب، الضحية مع المجرم في ذهنية رئيس دولة عظمى، كان الأجدر به أن يكون مخلصا لمبادئ الدستور الأميركي، والرجالات المؤسسين، ويبقى على مسافة واحدة وقريبة مع جميع الأميركيين مهما اختلفت أعراقهم وتنوعت ثقافاتهم وعقائدهم.
عاد ترامب الأحد الماضي وحاول تصحيح موقفه عندما أعلن متحدث باسم البيت الابيض أن الرئيس الأميركي يندد “بكل أشكال العنف” بما فيها “بالتأكيد” ذلك الذي يمارسه المنادون بتفوق العرق الأبيض والنازيون الجدد.
وقال المتحدث إن “الرئيس قال بقوة أمس إنه يدين كل أشكال العنف وانعدام التسامح والكراهية. وهذا يشمل بالتأكيد المنادين بتفوق العرق الأبيض و(جماعة) كو كلوكس كلان والنازيين الجدد وكل المجموعات المتطرفة”.
كما كان من الضروري ـ وعلى سبيل حفظ ماء الوجه ـ أن تعلن من قبله ابنته ومستشارته إيفانكا ترامب، تنديدها بـ”العنصرية وأصحاب نظرية تفوّق العرق الأبيض والنازيين الجدد”، معتبرة في سلسلة من التغريدات أن “لا مكان داخل المجتمع الأميركي” لمثل هذه الأفكار.
ومهما يكن من أمر فإن هذه الزيادة المتقشفة في جرعات الإدانة المحتشمة، لا تجعل ترامب في وضعية براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولا تبرئه من سياسة رسمها لنفسه منذ بداية تحضيره لحملته الانتخابية عبر شبكة من الولاءات والتحالفات والمغازلات لرموز اليمين وأقطاب العنصرية السافرة أو المقنّعة.
لا أحد يولد كارها وحاقدا ولكن كثيرين يصغون ويتربون ويتغذون على خطاب عنصري تحريضي، يخاطب الغرائز.
لا يتردد الكثير من جمهور المراقبين والمحللين والسياسيين ـ وحتى البعض من حلفائه الجمهوريين ـ في الربط بين موقف ترامب الفاتر من أحداث شارلوتسفيل وبين الغموض الذي يلف موقفه إزاء اليمين المتطرف منذ حملته الانتخابية السابقة، كما أنّه لا يخفى على أحد من أنّ قسما لا بأس به من اليمين البديل “الت رايت” دعّم ترامب خلال الانتخابات الرئاسية السابقة، وهو الذي تجنّب مرارا النأي بنفسه عن بعض هذه المجموعات والمسؤولين عنه، والذين يكنّون عداء تاريخيا للمسلمين واليهود والزنوج.
ونتيجة ذلك تعرض ترامب لانتقادات حتى من قلب فريقه الجمهوري، على غرار ما فعل سيناتور فلوريدا ماركو روبيو، الذي أعرب عن الأمل بـ”سماع الرئيس وهو يصف حقيقة ما حصل في شارلوتسفيل، وهو ليس سوى هجوم إرهابي قام به من يؤمنون بتفوّق العرق الأبيض”.
ومن جهته قال السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الذي بات يتجه أكثر فأكثر نحو زيادة انتقاداته للرئيس الأميركي “لو كنت رئيسا للولايات المتحدة وأعرب هؤلاء الأشخاص عن تعاطفهم مع شخصي وبرنامجي، فإن الأمر كان سيطرح لي مشكلة”.
ما سبق ذكره من زيادات في لهجة الإدانات لهذه الموجة العنصرية، ومن انتقادات لسياسة الرئيس الأميركي التي ما انفكت تصبّ الزيت على النار، لا تدعو إلى التفاؤل المفرط بمستقبل التعايش والسلم الأهلي في الولايات المتحدة، ولا تبرئ حتى بعض الذين التزموا بواجب التنديد إذا أخذنا في الاعتبار أننا نتحدث عن “ديمقراطية عريقة” وليست “ناشئة”، وأنّ الدولة التي تقع فيها هذه الأحداث هي أكثر الدول تشدقا بالديمقراطية وتنديدا بما يحدث في بلاد أخرى من خروقات حقوقية وممارسات عنصرية ثم أن كلمة “أميركا” في كل أصقاع العالم ـ ومنذ نشأتها ـ قد ارتبط اسمها بأرض تحقيق الأحلام بعيدا عن كل المنغصات العنصرية وغيرها.
المعضلة الأخرى تتمثل في كيفية معالجة هذه الأحداث على الطريقة الأميركية، هو أن تُقزّم المسألة وتتحول إلى مجرد قضية جنائية يعاني فاعلها من اضطرابات نفسية قد تحدث في أيّ مجتمع صناعي متطوّر، ويدرج الملف طيّ الكتمان في حال انحسار الأحداث وعدم تفاقمها. وبعدها يعود ترامب وأنصاره إلى مواصلة إطلاق التصريحات والتهديدات العنصرية التي تنضح حقدا وكراهية. أغلب الظن أن هذا ما سيحدث بعد أن تسعى الشرطة الفدرالية إلى معرفة دوافع قيام جيمس فيلدز، البالغ عشرين عاما من العمر بدهس المتظاهرين المناهضين للعنصرية في المدينة بعد أن وجّهت إليه تهمة القتل وتعمد العنف، وسيمثل أمام قاض الاثنين المقبل.
ربما يمثل خروج الرئيس السابق باراك أوباما عن صمته مستشهدا بكلمات الزعيم الراحل نيلسون مانديلا ـ رمز النضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ـ أكثر من معنى “لا احد يولد وهو يكره شخصا آخر بسبب لون بشرته أو أصوله أو ديانته”.
نعم لا أحد يولد كارها وحاقدا ولكنّ كثيرين يصغون ويتربّون ويتغذّون على خطاب عنصري تحريضي، يخاطب الغرائز وتتشابك فيه المصالح كما حدث ويحدث في أوساط اليمين الأميركي.