افراسيانت - بقلم: راسم عبيدات - القدس - بداية لا يمكن أن تندلع انتفاضة جديدة بقيادة قديمة، ولا بأدوات قديمة أصبحت مستهلكة ولا تتلائم مع المرحلة وطبيعة التطورات والمتغيرات. ولا يمكن ان تتقدم الإنتفاضة الى الأمام في ظل انقسام عمودي وأفقي، وكذلك البرامج المتعارضة سياسيا،والتكتلات والأحلاف العربية وامتداداتها في الساحة الفلسطينية، وتعدد جهات الولاء الفلسطيني.
ولكن بالمقابل بالحديث عن الواقع الآن وتوصيفاته، نستطيع القول بأننا أمام حالة انتفاضية، أخذت زخماً وبعداً أكبر من الهبة الشعبية التي انطلقت في تشرين أول 2015، وهذا البعد الجديد الذي يجب أن يؤخذ بالحسبان هو البعد الديني، ولكن بالحديث عن الظروف الذاتية والموضوعية، ومدى نضجها، وهل ما يحدث الآن في القدس يمكن ان يبقى في إطار انتفاضة محلية مقدسية، أم أن هذه الإنتفاضة ستمتد الى كل فلسطين التاريخية.
لا أحد يجادل بأن الظرف الموضوعي غير ناضج، فهو ناضج تماماً حيث الإحتلال وكل تمظهراته العسكرية والأمنية والشرطية والاقتصادية وما يتصل بها من اجراءات وممارسات قمعية وإذلالية تطال المقدسيين في وجودهم وكل تفاصيل حياتهم اليومية ،تغذي قيام مثل هذه الإنتفاضة او الهبة الشعبية الواسعة، ولكن بالمقابل هل العامل الذاتي الفلسطيني جاهز ومهيأ لمثل هذه الإنتفاضة الشعبية؟ وهل القيادة الحالية والقوى والأحزاب قادرة على الإمساك بهذه الإنتفاضة وتحديد برنامج وهدف لها؟ أم ستبقى في الإطار العفوي تتكرر كل فترة بهبات وموجات جديدة ذات أهداف جديدة تمسك بها قيادة يفرزها الواقع والميدان؟ أم ان الإحتلال سينجح في كسرها والإجهاز عليها؟.
منذ الهبة الشعبية التي بدأت في القدس عقب خطف وتعذيب وحرق الشهيد الفتى محمد أبو خضير، حياً في 2 تموز2014، والقدس على وجه التحديد تشهد هبات جماهيرية شعبية متلاحقة. الأقصى والقدس وما يقوم به الإحتلال من تعديات بحقهما وعليهما لفرض واقع السيادة والسيطرة عليها،هي المحرك الأساسي لهذه الهبات، التي تعلو حيناً وتهبط حيناً آخر. وهي لم تستطع ان تنتقل من إطارها المحلي الى الإطار العام الأرحب والأوسع، وبقيت عبارة عن اشتباك انتفاضي عماده الشباب والحركات الشبابية، وغلب عليه العفوية والعمليات الفردية، واستطاعت تلك الهبات والحراكات ان تحقق انجازات سياسية ومعنوية، دون ان تصل الى حد بلوغ تحقيق انجاز استراتيجي، يتمثل بإنكفاء الإحتلال وتمظهراته العسكرية والأمنية والإقتصادية عن أي أرض على الرغم من ان هذه الهبات بددت الأوهام ان طريق مدريد- اوسلو والمفاوضات ستقود الى دولة، وبددت أوهام الإحتلال أيضاً حول ان القدس موحدة وغير قابلة للتقسيم، ووحدت الشعب الفلسطيني على طول وعرض فلسطين التاريخية، وأعادت القضية الفلسطينية الى صدارة المشهد العالمي، وأدخلت المجتمع الإسرائيلي في حالة من الخوف والرعب وغيرها من المنجزات الأخرى.
وفي كل الهبات الشعبية السابقة " اسرائيل" فشلت في إنهاء وقمع وإخماد تلك الهبات، وفي المقابل نحن فشلنا بإمتياز كقوى واحزاب في تحويل الإشتباك الإنتفاضي الى خيار سياسي يتجاوز أوسلو والإنقسام. وما زال هذا الإشتباك الإنتفاضي يسير بدون قيادة واهداف وطنية موحّدة، وتغيب عنه الركائز الفكرية والسياسية والاقتصادية والإجتماعية والوطنية الموحدة.
الآن في هذا الإشتباك الإنتفاضي الجديد، المختلف عن الإشتباكات الإنتفاضية السابقة نسبياً، بدخول عامل إضافي مؤثر على هذا الإشتباك، ألا وهو الدين والأقصى وما يمثله من ارتباط ديني ووجداني وروحي عميق مع اهل القدس وفلسطين خاصة والأمتين العربية والإسلامية عامة، حيث يوفر هذا العامل زخماً شعبياً كبيراً، وهذا الزخم منخرط يومياً في الإشتباك الإنتفاضي ومستمر فيه ما دام المحتل مستمر في عدوانه على المسجد الأقصى ومحاولة فرض السيطرة والسيادة عليه، وهو الزخم يزداد حجماً واتساعاً كلما امعن الإحتلال في عدوانه وصلفه بحق الأقصى.
وكما في الهبات الشعبية السابقة، لم نجد بأن هناك برنامج وهدف واضحين، وحتى الرؤيا والموقف وإن توحدت كل المكونات والمركبات المقدسية دينية ووطنية ومجتمعية وشعبية حول مطلب إزالة البوابات الالكترونية والكاميرات الذكية، وعودة الاوضاع في الأقصى الى ما قبل 13 تموز الحالي، فلا يمكن اعتبار هذا هدف، فالمسجد الأقصى قطع المحتل شوطاً كبيراً في فرض وقائع جديدة عليه لمصلحة الجمعيات التلمودية والتوراتية، من تقسيم زماني الى حفريات حوله وأسفله الى شرعنة عمليات الإقتحام وغيرها.
ولذلك فإن القبول بالعودة الى الصلاة في المسجد بمجرد إزالة البوابات الالكترونية وحتى الكاميرات الذكية، لا يعني بأن الحرب والعدوان على الأقصى سيتوقفان، بل في ضوء "التوحش" و "التغول" الإسرائيلي ستتصاعد الهجمات على الأقصى، ولذلك يجب تظهير الهدف لهذه الهبة الشعبية بوقف اقتحامات الأقصى، وإعادة الوضع الى ما قبل اقتحام شارون للأقصى في 2001، او قبل مجزرة الأقصى 1990 م.
ويجب الإنتباه الى ان الأقصى رمز وطني قبل ان يكون دينياً، ويجب ان لا ننجر الى خانة ومربع الحرب والصراع الديني، الذي يسعى المحتل له.
وهذه الهبة الشعبية كما هي الهبات السابقة، بقيت بدون إطار قيادي موحد، يقود وينظم ويؤطر ويحدد الهدف، ويشكل رافعة وحاضنة لكل النضالات الجماهيرية والشعبية ويوحدها في مجرى عام، يراكم الإنجاز تلو الإنجاز، لكي تصل الهبة الى هدفها المنشود. وبسبب الوضع الفلسطيني الحالي المأزوم على كل الصعد، سلطة وفصائل وحتى جماهير، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة، وكذلك تأبيد وشرعنة الإنقسام والصراع المحتدم على سلطة منزوعة الدسم، كلها عوامل ضاغطة عطلت لقيام انتفاضة شعبية شاملة،
ولكن هذا لا يمنع حدوث تجاوز كبير قد يقدم عليه الاحتلال، قد يدفع بالأوضاع نحو إنتفاضة شاملة، تقود الى خروج الأوضاع عن السيطرة.
واذا استمرت الهبات الجماهيرية على شكل "موجات" انتفاضية، كل موجة يكون لها عنوان وهدف، فإن هذه الموجات تخلق قيادات ميدانية تكتسب الخبرة والتجربة والقيادة في معمعان العمل والكفاح.
ولتحقيق هذا الهدف، يجب أن تتشكل قيادة جماهيرية علنية مقدسية ضمن إطار تنسيقي مع الداخل الفلسطيني – 48 -، تكون حاجز صد ومواجهة لمخططات الاحتلال ومشاريعه المستهدفة الشعب الفلسطيني ووجوده في القدس والداخل الفلسطيني، في سياق تجاربها وعملها وفعلها، تكون قادرة على إقامة تيار شعبي واسع،تتشكل له حوامل تنظيمية وروافع سياسية ، بحيث يتشكل إطار جبهوي عريض، يمتد تدريجياً ليطال بقية أرجاء الوطن في الضفة وقطاع غزة.