افراسيانت - الدكتور عبـد القادر حسين ياسين* - تـحـل يـوم غـد الـذكـرى الـخـمـسـون لـنكسة حزيران ...في ذلك اليـوم ، الخامس من حـزيران 1967، خرج الفـلـسـطـنـيـون غير مصدقين أن حلم تحرير فـلسطين، تحول إلى نكبة ثانية، وأن حلم العودة أصبح مشروع لجوء آخر، وأن عـلـيـهـم أن يعدوا أنفـسهم لمرحلة أخرى ,لا يعرفون إن كانت مرحلة جديدة من الهزائم ، أم بداية لمشروع أكثر إدراكاً للواقع.
لكن النكسة فتحت سجلا جديداً، وتاريخاً جديداً، تاريخا أكثر صعوبة، وطرحت مهام من نوع مختلف.
كان من الصعب أن يـُصدق الـفـلـسـطـيـني ما جرى، كيف يمكن أن يـصـدّق أن اسرائيل ستهـزم العرب بأناشيدهم الحماسية، وحناجرهم التي بُحـَّت من ترديد شعارات النصر؟!
كان التصديق والتسليم بالأمر الواقع أمراً مريراً على الفلسطيني ، الذي صار اسمه "نازحا"، وهو اسم ما زال دارجاً، وأصبح مع النكسة للمخيمات الفلسـطـينيـة إسمان : واحد للاجئين الذين هجرتهم النكبة، وآخر للنازحين الذين هجرتهم النكسة.
بعد النكسة كان على المفكرين والمثقـفـين والمبدعـين الـعـرب،أن يواجهوا علامة فارقة في تاريخ العرب المعاصر، علامة أو وشماً لم تمح آثارهما إلى يومنا هذا...
في الفكر تأجج الصراع بين التيارات الفكرية المختلفة ،من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار،
كان على المفكر العربي أن يبحث في أسباب الهزيمة،أن يحلل، أن يعود إلى التاريخ قـديمه وحديثه،أن يبحث عن أدوات فكرية ناجعة، عن مبضع جراح، عن جرأة في الطرح، في الوقت الذي كان فيه الواقع،يعاني من تحولات خطيرة في كافة بناه.
بعض المفكرين ذهبوا إلى الماركسية بوصفها منهجا ماديا لقراءة التاريخ، وتكاثرت الماركسية إلى ماركسيات، وبعضهم ذهب إلى القومية، بوصفها الحل السحري الذي أنجزته أوروبا وجربته، لكن القومية أيضا صارت قوميات، وآخرون عادوا إلى العصر الذهـبي للحـضـارة الإسـلاميـة ،غير أن هـذه الـفـكـرة أيضا عانت ما عانته الأفكار الأخرى.
في الأدب كان المبدعـون مع موعـد للكتابة، ظهر الشعر الفلسطيني المقاوم من محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وكانت المباشرة تلك اللغة التي تشبه مباشرة الجرح، وكان وضوح المفردة يشبه وضوح المأساة، وكانت الكتابة تشبه نشيدا طويلا، نشيداً جماعـياً
في المسرح استوحى سعـد الله ونوس من يوم النكسة ،عـنـوانا لمسرحيته: "حفلة سمر من أجل 5 حزيران"،حاول فيها أن يقرأ أسباب النكسة، وأن يدفع المتلقي،قارئا أم متفرجا، لفهم الأسباب العميقة للنكسة، بعيدا عن الشعارات، محاولا الخروج من متاهة الكلمات الجوفاء،إلى صورة الواقع كما هي، الواقع بوصفه حركة الإنسان في التاريخ.
بعد 50 عاماً صارت النكسة نكسات ، وتحول القتال مع الآخر إلى الاقتتال مع الذات...
بعد 50 عاما من النكـسـة رحل محمود درويش وتوفيق زياد، ونزار قباني، وما زالت النكسة باقية في آثارها، تلك التي دعا الكثيرون إلى "إزالـة" آثارها، من خلال دلالاتها الأكثر عمقا، من خلال عمقها العربي، ذاك العمق الذي سيبقى سطحاً ، ما لم تتحول المواطنة من فكرة إلى واقع، ومن دون أن تتحول الديموقراطية من حلم إلى دينامية، ومن دون أن تصبح الثقافة كالخبز، ومن دون أن تصبح قلة الكلام أفضل بكثير من الصراخ المجـَّاني...
ويبدو أن "التقادم" ، قد فعل فعله في إضعاف الاهتمام ،بالذكريات الفلسطينية المؤلـمـة التي صار الحديث عنها "مملا" ، كأي حديث يعاد ويكرر مراراً، دون أن يتضمن أي عنصر جديد!!
ويبدو، أيضا، أن تعدد الذكريات المؤلمة في التاريخ الفلسطيني الحديث،قد ساهم ، مع "التقادم" ، في إبطال مفعول هذه الذكرى ...
فـقـد مضى ذلك الزمن التي كانت فيه الجماهير الفلسطينية،تستقبل ذكرى النكـسـة بتأثير عميق وحماس ظاهر، واحتجاج صريح وبصوت شعبي عال.
وحين تـُجرد الجماهير الفلسطينية من ذاكرتها ووعـيها، يسهـل تجريدهـا من كل سلاح مادي ومعـنوي، وتصبح بذلك مهـيـئة للسقوط في شراك العـدو الصهيوني ، فاقدة بذلك القدرة والإرادة على الصمود والتصدي للأخطار ، والتحديات المتلاحقة التي تهدد وجودهـا بكافة أبعاده ومقوماته.
إن انفراد الشعب الفلسطيني بإحياء الـذكريات المؤلـمـة ،التي ألمت به أمر بالغ الخطورة، وأبسط ما يتضمنه من المعاني الخطيرة،هو نجاح العـدو في "أقـلـمة" القضية القومية الأولى، وإشاعة النفس الإقليمي في المنطقة ضمن محاولات العزل والحصار..
وبعـد؛
بعد 50 عاما من النكسة ليس هناك إجابات واضحة عن المستقبل، وإنما المزيد من الأسئلة التي تتراكم وتتراكم من دون إجابات.
فإذا لم نكن قادرين على أن نجعل من الذكريات المؤلـمـة ،حافزاً على استعادة ما ضاع، فلنجعل منها ، على اقل تقدير، مصدر وعـي للمحافظة على ما تبقى!!!...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في السويد .