افراسيانت - صبحي غندور - ردّد بعض الساسة اللبنانيين، في مطلع السبعينات من القرن الماضي، مقولة "أنّ قوة لبنان هي في ضعفه" لتبرير عدم بناء جيش وطني قوي وقادر على حماية لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية. وطبعاً، ثبت بطلان هذه المقولة فيما بعد حينما احتلّت إسرئيل جنوب لبنان عام 1978، ثمّ عاصمته بيروت في العام 1982.
وما أعاد هذه المقولة إلى ذاكرتي، حالة معاكسة، هي ما قاله دونالد ترامب منذ أيامٍ قليلة عن ميزانية وزارة الدفاع الأميركية التي قرّر ترامب زيادةً لها بنسبة 10%، أي حوالي 60 مليار دولار على ميزانية العام الماضي، والتي وصلت إلى مبلغ 600 مليار دولار، وهي تقترب من نسبة ثلث الميزانية العامّة الأميركية ولا تعادلها في ذلك أي دولة بالعالم، عِلماً أنّ وزراة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تتعامل مع حوالي مليوني شخص من الموظفين العسكريين والمدنيين وجنود الاحتياط.
فنعم، أميركا هي القوّة العسكرية الأعظم الآن، وهكذا كانت في معظم عقود القرن الماضي، لكن يبدو أنّ "ضعف أميركا هو في قوّتها"، أي عكس المقولة اللبنانية التي أشرت إليها، لأنّ القوة العسكرية الضخمة تخلق جنون العظمة وتسقط المبادئ لحساب المصالح، وتجعل من يملكونها يستسهلون فكرة امتلاك العالم كلّه، ثمّ يتبين فيما بعد، أنّ القوة بغير حقّ لا تدوم ولا تنتصر.
فأميركا التي استطاعت الهيمنة العسكريّة على الأرض والفضاء معاً... أميركا التي أسقطت منافسها الكبير في القرن العشرين، القطب السوفييتي، رغم إمكاناته الضخمة في كلّ المجالات... أميركا التي ورثت الإمبراطوريّات الأوروبيّة وجعلت من دولها نجوماً تسبح في الفلك الأميركي... أميركا الجبار الدولي الأوحد وقف مرّةً أخرى (بعد تجربة حرب فيتنام في الستّينات)، وخلال سنوات قليلة من عمر القرن الحادي والعشرين، بمظهر العاجز والضعيف أمام صدماتٍ أمنية وعسكرية!.
الصدمة الأمنية التي أظهرت العجز الأميركي كانت العمليات الإرهابية التي حدثت في نيويورك وواشنطن وأودت بحياة آلاف من المدنيين الأبرياء الذين سقطوا ليس فقط ضحيّة الإرهاب واستخدام الطائرات المدنيّة لضرب مؤسّسات مدنيّة، بل أيضاً نتيجة التقصير السياسي والأمني الأميركي، وعدم استعداد إدارة بوش الابن لمثل هذه الأعمال رغم توقّع وتحذير المخابرات المركزيّة الأميركية من إمكانات حدوثها.
الأمر الآخر المخزي الذي عاشته أميركا في هذا القرن الجديد، وكان صدمةً عسكرية وسياسية، هو ما حدث بعد احتلال العراق من عجزٍ عن ضبط أوضاعه الأمنية، ومن فضيحة سياسية بسبب بطلان مبرّرات الغزو، ثمّ الممارسات المشينة التي جرت خلال فترة الاحتلال ضدّ العراقيين.
أحداث سبتمبر 2001 كشفت العورات الأمنيّة والسياسية في أميركا، والحرب على العراق كشفت عجز استخدام القوة العسكرية من دون حقّ عن تحقيق النصر المنشود.
وكما أنَّ المشكلة لم تكن في القدرات الأمنيّة والتكنولوجية لأميركا في توقّع أحداث سبتمبر 2001 والتحوّط لها، فإنَّ المشكلة في العراق لم تكن أيضاً في قدرات أميركا، بل في غياب مشروعية القرار بالغزو، وفي الأهداف المشبوهة له، وفي أساليب القتل العشوائي والقهر للمواطنيين العراقيين.
فهل يمكن تفسير الأمرين (11 سبتمبر وغزو العراق) بأنَّهما حصيلة "غرور العظمة" الأميركية وتحوّل مكامن القوّة إلى عناصر ضعف ووهن لدى القطب العالمي الأوحد الآن، أم إنّ الرابط بين الأمرين هو جدير بالتوقّف أمامه أيضاً؟!.
فتقرير وكالة المخابرات الأميركية للرئيس بوش في شهر آب/ أغسطس 2001 كان واضحاً في توقّعاته بشأن إمكانيّة حدوث أعمال إرهابية في نيويورك وواشنطن، وبأنَّ عناصر من "القاعدة" قد تستخدم طائراتٍ مدنيّة في أعمالها، وقد قرأ الرئيس الأميركي هذا التقرير في يوم 6/8/2001 خلال إجازته في تكساس، ولم يقرّر هو أو إدارته أي إجراءات استثنائيّة لمنع حدوث ما كان في معلومات وتقديرات جهاز المخابرات المركزيّة. وهذا الأمر عرفه وسمعه وشاهده الأميركيون والعالم خلال جلسات لجان الاستماع في الكونغرس الأميركي التي سبقت إصدار التقرير الشهير عن أحداث أيلول/سبتمبر 2001 .
إدارة بوش الابن قرّرت عدم الاستعداد لمواجهة احتمالات أعمال إرهابية في أميركا، لأنّها كانت تريد توظيف هذه الأحداث حين حصولها من أجل البدء في تنفيذ أجندتها، التي أعطت الأولويّة للحرب على العراق منذ مجيئها للحكم في مطلع العام 2001، إضافةً إلى توظيف ردّة الفعل على الأعمال الإرهابية في أميركا لصالح رئيس جاء بقرار من المحكمة الدستوريّة العليا، بعد أزمة دستوريّة لأسابيع طويلة، وبعد أنْ فاز المرشّح الديمقراطي آل غور بغالبيّة أصوات المقترعين الأميركيين.
وقد حصلت إدارة بوش على ما أرادته عقب 11 سبتمبر 2001، وإنْ كانت طبعاً لم تتوقّع أنْ تكون الخسائر البشريّة والمادّية بالحجم الكبير الذي حصلت فيه، فربّما كانت تقديراتها أنَّ الحد الأقصى قد يكون تحطّم طائرات مدنيّة بمن فيها، ممّا يعطي الأعذار المحلّية والدولية لسياسة الحروب والانتشار العسكري الأميركي في العالم، وممّا أيضاً يوجِد مظلّةً سياسية وقانونية لإجراءاتٍ داخلية تخدم أجندة "المحافظين الجدد" آنذاك.
فهل قرار دونالد ترامب بزيادة حجم ميزانية "البنتاغون" وبإصراره، وفريق عمله، على التحذير من أعمال إرهابية في أميركا، وتخويف الأميركيين من المهاجرين ومن المسلمين، هو مقدّمة لحالاتٍ عسكرية وأمنية قادمة، واستنساخ لنهجٍ مارسه "المحافظون الجدد" مطلع هذا القرن؟!.
إنّ المناخ السياسي والثقافي والإعلامي في الولايات المتحدة والغرب عموماً هو جاهزٌ لكلّ عاصفةٍ هوجاء وأعاصير ضدَّ كلّ ما هو عربي وإسلامي، لكن للأسف، فإنَّ ما صدر ويصدر عن جماعات التطرّف العنفي وما يحدث من ممارساتٍ إرهابية هنا أو هناك، أعطى ويعطي وقوداً لنار الحملة على العرب والمسلمين أينما كانوا.
أيضاً، فإنَّ القوّة الحقيقية لأمريكا هي في تعدّديتها الثقافية وتنوّع أصول شعوب مجتمعها، وفي تكامل ولاياتها، وفي نظامها الدستوري الذي يساوي بين جميع المواطنين، وحينما تهتزّ عناصر القوّة هذه، فإنَّ الضعف والوهن لا يكون حينذاك في القرار السياسي أو في الحكومة المركزيّة فقط، بل في خلايا المجتمع الأميركي كلّه.
هي خسارةٌ كبرى لأميركا أنْ تتغذّى الآن فيها من جديد مشاعر التمييز العنصري والتفرقة على أساس اللون أو الدين أو الثقافة، بعدما تجاوزت أميركا هذه الحالة منذ معارك الحقوق المدنيّة في الستّينات، ثمّ من خلال انتخاب باراك أوباما لأهمّ منصبٍ حكومي في العالم.
إنَّ أميركا تشهد حالاتٍ من التمييز الديني والثقافي بحقّ بعض الأقلّيات، ومنها العرب والمسلمين، وهذه الظواهر القائمة على أساس التمييز بناءً على لونٍ أو عنصر أو دين أو ثقافة هي التي تهدّد وحدة أي مجتمع وتعطّل أي ممارسة ديمقراطية سليمة. وإذا استمرّت وتصاعدت هذه الحالات، فإنّ عناصر القوّة المجتمعية الأميركية مهدّدة بالانهيار وبالصراعات الداخلية، وبانعكاس ذلك سلبياً على دور الولايات المتحدة.
الإدارة الأميركية الحالية لن تتراجع عن أجندتها وسياستها، لكن حتماً سيراجع المجتمع الأميركي حساباته السياسية والانتخابية في أي معركة انتخابية أميركية قادمة، تماماً كما حصل بعد فترة حكم بوش الابن ومعاونيه من المحافظين، فأميركا هي أيضاً مجتمعٌ حيوي قادرٌ على استيعاب الأزمات حتّى لو لم تتمّ محاسبة المسؤولين عنها!.