افراسيانت - صبحي غندور * - كثيرون من العرب، في داخل بلدان الأمّة وخارجها، يتساءلون الآن عن ماهيّة بديل الحالة العربية الراهنة التي سماتها الحروب الأهلية والانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية، وتصاعد التدخّل الأجنبي وانهيار أوطان ومجتمعات. ويشترك كلّ العرب في وصف واقع الحال ورفضه، لكنهم يختلفون في فهم أسبابه وبدائله المنشودة. البعض يضع الملامة فقط على حكومات مستبدّة ويرى الحلَّ فقط باعتماد الحياة السياسية الديمقراطية، بينما تجارب عربية حديثة في لبنان والعراق ومصر وتونس وليبيا تؤكّد أنّ سقوط “حكم الاستبداد” لا يعني أنّ البديل عنه سيكون أفضل، وبأنّ الحلَّ لا يكون فقط بالانتخابات وباعتماد آليات ديمقراطية حتّى يمكن تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي. كذلك الأمر، ما حصل حينما دعا البعض إلى شعار “الإسلام هو الحل”، وبأنّ وصول حركات سياسية دينية للحكم سيخرج الأوطان من أزماتها، فإذا بهذه الأوطان والمجتمعات تزداد بعد ذلك تأزّماً وانقساماً.
أيضاً، هناك رأي مقابل في الفكر العربي المعاصر، يرى أنّ معظم مصائب الأمّة العربية سببها التدخّل الأجنبي والقوى الخارجية، بينما تجارب النصف الثاني من القرن العشرين تؤكّد أنّ العرب نجحوا في معارك التحرّر الوطني وفي طرد المستعمر الأجنبي من بلادهم، لكنّهم فشلوا في بناء المجتمعات المدنية الحديثة، وفي تحصين الداخل الوطني من مشاريع ومؤامرات الخارج.
ربّما المشكلة هي في “آحادية التفكير والحلول”، وفي المراهنة على عنصر واحد من جملة عناصر تُكمّل بعضها البعض في عملية بناء المجتمعات الحديثة الناجحة. فممارسة الديمقراطية السليمة تحتاج إلى توفّر مجتمعات مدنية متحرّرة من أي هيمنة خارجية وقائمة على مرجعية الناس في الحكم والتشريع، وممّا يحقّق حرّية الوطن والمواطن معاً، وصولاً إلى العدل السياسي والاجتماعي، وبذلك يسود الاستقرار ويتعزّز مفهوم المواطنة المشتركة.
لكنّ المشكلة أيضاً في المجتمعات العربية هي في عدم التوافق على مسألتين، هما بمثابة مسلّمات ومنطلقات في المجتمعات الحديثة الناجحة: الهُويّة ودور الدين. فحسم كيفيّة فهم هاتين المسألتين هو الأرضية الأساسية لبناء أوطان عربية متقدّمة وموحّدة، ومن دون ذلك، سيبقى الخلل قائماً، والتصدّع محتملاً، في بنية ووحدة أي بلد عربي. فالإصرار على أولوية “الهُويّات” غير الوطنية والعربية سيجعل ولاء بعض المواطنين لخارج وطنهم، بحكم “المرجعيات الدينية أو الإثنية”، وسيوفّر المناخ المناسب للتدخّل الأجنبي ولصراعات أهلية.
هذا ليس بموضوعٍ جديد على منصّة الأفكار العربية. فهو موضوع لا يقلّ عمره عن مائة سنة، إذ منذ مطلع القرن العشرين يدور التساؤل في المنطقة العربية تحديداً حول ماهيّة هويّة هذه المنطقة، وهي المرحلة التي بدأ فيها فرز العالم الإسلامي بعد انتهاء الحقبة العثمانية إلى دول وكيانات وفق اتفاقية “سايكس- بيكو”. لكن ما حدث خلال القرن العشرين أثبت عدم إمكان الفصل في المنطقة العربية ما بين العروبة الثقافية والإسلام الحضاري. فالعروبة والإيمان الديني حالة متلازمة في المنطقة العربية، وهي مختلفة عن كل علاقة ما بين الدين والقوميات الأخرى في العالم الإسلامي. فقد كان على تركيا، لكي تبتعد عن الدين (وهو هنا الإسلام)، كان عليها أن تتمسّك بقوميتها التركية وأن تستبدل أبجديتها العربية باللاتينية. وهذا المثال الذي حدث في تركيا جعل الكثيرين من العرب، المتمسّكين بدينهم الإسلامي، يعتقدون أنَّ الحديث عن القومية العربية يعني التخلّي أيضاً عن دينهم، قياساً على التجربة القومية التركية في مطلع القرن العشرين، بينما الأمر يختلف من حيث خصوصية العلاقة بين العروبة والإسلام، فهي مسألة خاصّة بالعرب لا تشترك معهم فيها أيّة قومية أخرى في العالم الإسلامي. فالعربية هي لغة القرآن الكريم، والثقافة العربية هي التي انتشرت من خلالها الدعوة الإسلامية في العالم.
وكما صحَّ القول المعروف: “كم من الجرائم تُرتكب باسمك أيتها الحرية”، فإنّ جرائم عربية عديدة كانت تُرتكب باسم “الهويّة” الوطنية أو العربية… لكن، هل أدّت الجرائم باسم “الحرية” إلى التخلّي عن هذا الهدف النبيل والمطلب المشروع لكلِّ فردٍ وجماعة وأمَّة..؟!.
لقد كانت “الهُويّة العربية” تعني – وما تزال- القناعة بأنّ العرب أمَّة واحدة تتألف الآن من أقطار متعدّدة، لكنها تشكّل فيما بينها امتداداً جغرافياً وثقافياً وحضارياً واحداً، وتتكامل فيها الموارد والطاقات البشرية والمادية. والمتضرّرون من تثبيت وتفعيل هذه “الهُويّة” هم حتماً من غير العرب، الذين في الماضي، كما هم في الحاضر، يمنعون توحّد شعوب الأمَّة العربية؛ حفاظاً على مصالحهم في المنطقة، وعلى مستقبل استنزافهم لثرواتها.
لكن دور الدين في الحياة العربية هو سيفٌ بحدّين، حيث من المهمّ التمييز بين ما في الإسلام وكل الرسالات السماوية من قيم ومبادئ هامّة جداً، في كلّ زمانٍ ومكان، للإنسان الفرد وللجماعة، وبين أمور ترتبط بكيفيّة المعاملات والعبادات، والتي تختلف الاجتهادات حولها حتّى داخل المذهب الواحد، فكيف مع مذاهب وطوائف أخرى؟! لذلك يُصبح الحديث عن المجتمعات المدنية الحديثة الناجحة متلازماً مع مسألة “العلمانية”، بمعناها العام الداعي لفصل “رجال الدين” عن قضايا الحكم وسنّ الدساتير والقوانين، والتي عليها حتماً أن تسترشد بالقيم والمبادئ الدينية والإنسانية المشتركة.
إنّ العلمانية لم تكن في نشأتها الأساسية بأوروبا مذهباً فكرياً مضادّاً للدين، بل يمكن اعتبار العلمانية كمذهب ديني دخل على المسيحية ونشأ معها ولم يدخل التجارب الإنسانية إلا بها. فقد ارتبطت نشأة العلمانية بصراع بين مؤسسة دينية كاثوليكية أوروبية احتكرت كل شؤون الدين والدنيا، وبين مؤسسات غير دينية نامية رافقت نشوء الدول والقوميات في أوروبا. ولم تكن العلمانية في أساسها دعوة إلى الكفر بالدين، بل كانت محصّلة عوامل سادت في أوروبا نحو 7 قرون امتزجت فيها الثورة على استبداد الكنيسة أيام الأمراء والإقطاع، ثمّ على تدخّل الكنيسة أيام الثورة الصناعية. ولقد كان جوهر “حركة التنوير الأوروبي” هو الثقة في مقدرة العقل على إدراك الحقيقة.. وهو جوهر نثرت بذوره في أوروبا جماعة من الدارسين يسمّونها (المدرسة الرشدية) نسبةً إلى الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد (توفّي عام 1198).
وكانت العلمانية الأوروبية تعني عزل الدولة عن سلطة الكنيسة وليس عن الدين، وكانت تعني استمرارية لحركة التنوير والنهضة (التي بدأها مارتن لوثر في أوائل القرن 16)، وكانت تعني استخدام العقل وعدم القبول بقدسية كل ما تقوم به الكنيسة. فتعبير العلمانية لا يعني مطلقاً الارتباط مع كلمة العلم، حيث نصّ المنجد اللغوي العربي أنّ أساس التعبير هو “العامّي غير الإكليركي” الذي قد يكون فلاحاً أو طبيباً، وقد يكون أمّياً أو متعلّماً.
ومن الضروري التمييز بين دعاة العلمانية وعدم وضعهم جميعاً في سلّة واحدة، فهناك علمانيون يؤكّدون على دور الدين في المجتمع ويدعون لحقوق المواطنة للجميع دون ابتعادٍ عن الدين أو قيم الأديان، وهناك من يرفض أي دور للدين في الحياة العامّة، كما كان حال التجارب الشيوعية في القرن الماضي. لكن المنطقة العربية هي مهد كل الرسالات السماوية والأنبياء ومواقع الحجّ الديني، وبالتالي فإنّ تغييب أو تهميش دور الدين فيها هو مسألة مستحيلة عملياً.
إنّ فصل الدين عن المجتمع لم يحصل في أيّ أمّة إلا بفعل القوة (مثال تجارب الأنظمة الشيوعية). أمّا فصل الدين عن الدولة أو الحكم في الأنظمة الغربية فكان نسبياً، فهو في فرنسا فصلٌ كامل في السلوك السياسي والشخصي، وهو في أميركا فصلٌ فقط بقضايا الحكم.. وهو يختلف في بريطانيا عن النموذجين الفرنسي والأميركي.. وهناك في إيطاليا، وبعض دول أوروبا الأخرى، أحزاب سياسية قائمة على أساس ديني (كالحزب الديمقراطي المسيحي)، أمّا في يوغوسلافيا فلم ينجح الحكم العلماني الشيوعي (لأكثر من نصف قرن) في إزالة العصبيات الدينية حتّى بين الكاثوليك والأرثوذكس، وانشطرت يوغوسلافيا دينياً في عقد التسعينات رغم علمانيتها!.
فالعلمانية وحدها لم تكن العصا السحرية التي بنت أوروبا وأميركا في العصر الحديث، ولم تكفِ العلمانية والديمقراطية وحدهما، في كلّ بلدٍ أوروبي، لتحقيق التقدّم والبناء الاقتصادي والاجتماعي، لذلك كانت الحاجة إلى الاتّحاد والتكامل مع الآخرين الأوروبيين (الاتّحاد الأوروبي). كذلك الأمر في النموذج الأميركي، حيث تعجز أيّة ولاية أميركية عن بناء تقدّمها الاقتصادي والاجتماعي، بمعزلٍ عن الولايات الأخرى.
لقد شهدت بعض البلاد العربية والإسلامية تجارب لأنظمة حكم علمانية لكن بمعزل عن الديمقراطية السياسية في الحكم والعدالة في المجتمع، فلم تفلح هذه التجارب في حلّ مشاكل دولها؛ كنظام بورقيبة في تونس، والنظام العلماني لشاه إيران الذي أسقطته ثورة إسلامية، وتجربة الحكم الشيوعي في عدن الذي انتهى بصراعات قبائلية على الحكم، ونظام “جبهة التحرير” العلمانية في الجزائر الذي أدّى إلى تصاعد التيّار الإسلامي فيها، كما لم تمنع علمانية تركيا من بروز التيّار الإسلامي ووصوله للحكم، إضافةً للتجارب العلمانية الفاشلة لأنظمة حزب البعث منذ مطلع الستينات. أيضاً، فإنّ معالجة ظواهر العنف باسم الدين لا يكون بالابتعاد عن الدين بدلالة ظهور حركات العنف في أميركا وأوروبا على أساس ديني رغم وجود الأنظمة العلمانية.
إنّ البلاد العربية، لكي تنهض وتتقدّم، بحاجة إلى فكر يقوم على رباعيّة عناصر تجمع بين التأكيد على الهُويّة العروبية الحضارية، وعلى مرجعية القيم والمبادئ الدينية، وعلى بناء مؤسسات مدنية تستهدف الوصول إلى مجتمع العدل وتكافؤ الفرص، وتقوم آلياتها على أسس علمانية وديمقراطية وعلى منهج “العقلانية” في فهم النصوص، واعتماد المرجعية الشعبية في الحكم والقوانين.
* مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن