جدل مبكّر حول الدستور.. والحملة على الصحافيين تتجدد .. الانتخابات التركية: عودة إلى المربع الصفر
افراسيانت - السفير - من المؤكد أن الليلة الماضية كانت الأكثر هدوءاً لرجب طيب اردوغان منذ السابع من حزيران الماضي، فقد نام الرئيس التركي على انتصار انتخابي استعاد خلاله حزبه الإسلامي المحافظ «العدالة والتنمية» الغالبية المطلقة في البرلمان، ما سيمكنه من تشكيل الحكومة التركية الجديدة بمفرده، ويعيد بذلك البلاد الى حكم الحزب الواحد، بعيداً عن إزعاجات معارضيه، المتعددي الانتماءات الأيديولوجية والمطالب السياسية.
وضرب حزب العدالة والتنمية كل التوقعات، امس الاول، فبعد فرز كل الاصوات تقريباً حصل على 49.4 في المئة منها ليشغل 316 من مقاعد البرلمان البالغ عددها 550 مقعداً، حسبما اعلنت شبكتا التلفزيون «ان تي في» و «سي ان ان - ترك».
ويشكل ذلك، بالنسبة الى اردوغان، انتقاماً بعد الهزيمة الساحقة التي مني بها في الانتخابات السابقة، التي خسر فيها حزبه الهيمنة الكاملة على البرلمان التي كان يتمتع بها منذ 13 عاماً ما أسقط حلمه بتعزيز الصلاحيات الرئاسية.
وخلافاً لما جرى في اليوم الاول من انتخابات السابع من حزيران الماضي، حين توارى اردوغان عن الأنظار بعد تكبّد «حزب العدالة والتنمية» هزيمة انتخابية مدوّية، استفاق الرئيس التركي باكراً، ليحتفل رمزياً بالانتصار الانتخابي عبر الصلاة في مسجد ايوب في اسطنبول، كما كان يفعل السلاطين الجدد في السلطنة العثمانية.
وخلال هذا الاحتفال السلطاني الرمزي، اطلق اردوغان سلسلة مواقف، اكد فيها ان «الإرادة الوطنية عبَّرت عن نفسها في الأول من تشرين الثاني لمصلحة الاستقرار»، مضيفاً «لنتحد ولنكن أشقاء ولنكن جميعا تركيا».
لكن المواقف الاردوغانية لم تقتصر على ما قاله للصحافيين في مسجد أيوب، فقد كان لافتاً للانتباه أن الرئيس التركي لم يستطع فور صدور النتائج شبه النهائية للانتخابات أن يكبح رغبته في التعبير عن فرحته بأي طريقة، فاستخدم موقع «تويتر»، الذي طالما هدد بإقفاله لإسكات معارضيه، مطلقاً سلسلة تغريدات جاء في إحداها «أود أن أهنئ جميع الاحزاب التي شاركت في انتخابات الاول من تشرين الثاني، وجميع المواطنين الذين أعربوا عن إرادتهم القومية من خلال أصواتهم». وأضاف في تغريدة أخرى «أهنئ حزب العدالة والتنمية الذي سيتولى السلطة لوحده، وأهنئ شقيقي أحمد داود أوغلو رئيس حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء».
والجدير ذكره ان اردوغان لم يخف في السابق ازدراءه لمواقع التواصل الاجتماعي، حتى انه تعهد بـ «القضاء» على تويتر قبل الانتخابات المحلية التي جرت في آذار العام 2014، وشبّه في آب من العام ذاته مواقع التواصل بأنها «سكين في يد القاتل»، مؤكداً انه «لا احب التغريد». وحجبت الحكومة التركية موقعي «تويتر» و «يوتيوب» لبضعة ايام قبل انتخابات آذارالعام 2014 بعد استخدامها لنشر سلسلة من التسجيلات الصوتية التي تدين اردوغان والدائرة المحيطة به في فضيحة فساد. إلا أن أردوغان بعث أول تغريدة شخصية له على الإطلاق من حسابه في شباط من العام الماضي ليدين التدخين في اليوم القومي التركي لمكافحة التدخين.
وكان رئيس الوزراء التركي احمد داود اوغلو قد دعا، في كلمة ألقاها في مقر «حزب العدالة والتنمية» في انقرة ليل امس الاول الى الوحدة في بلد يشهد انقساماً وقلقاً، معتبراً أن «لا خاسر في هذا الاقتراع» وأن «تركيا بأكملها ربحت»، مؤكداً ان الحكومة المقبلة ستدافع عن «المكتسبات الديموقراطية»، وأن «حقوق 78 مليون نسمة تحت حمايتنا».
كما دعا داود اوغلو الأحزاب السياسية التركية إلى الاجتماع والاتفاق على دستور جديد بعد استعادة حزبه الحاكم الغالبية في البرلمان.
ولا يبدو ان التهاني العاطفية التي وجهها اردوغان وأركان «حزب العدالة والتنمية» للمواطنين الاتراك، وللاحزاب السياسية، ستترجم على مستوى الشراكة الوطنية، فبالإضافة الى التذكير بأن الحزب الاسلامي المحافظ سيحكم منفرداً، والتلويح بأن هذا الانتصار الانتخابي سيكون مقدمة لـ «إصلاحات» سياسية يسعى من خلالها اردوغان الى الانتقال بالبلاد من النظام البرلماني الى النظام الرئاسي، فإنّ بوادر معاقبة المعارضين لاحت في الأفق يوم امس، بعد إقفال صحيفة سياسية واعتقال صحافيين.
وذكرت وكالة «دوغان» التركية للأنباء ان قوات الأمن التركية، وبناءً على طلب من النائب العام، داهمت مكاتب صحيفة «نوكتا» في اسطنبول، وصادرت نسخ عددها الأخير بتهمة «الحض العلني على ارتكاب جناية». وأضافت الوكالة ان الشخصين اللذين اعتُقلا هما رئيس التحرير جوهري غوفن ومدير النشر مراد تشابان.
وفي عددها الذي صدر يوم امس، نشرت «نوكتا» في صفحتها الاولى صورة لأردوغان وكتبت تحتها «بدء الحرب الأهلية في تركيا».
وليست هذه هي المرة الاولى التي تداهم قوات الأمن مقر «نوكتا»، سبق للصحيفة ان تعرضت لملاحقات مشابهة قبل اسابيع. وتأتي هذه الخطوة في سياق مسلسل التضييق على الصحافيين، حيث داهمت قوات الأمن، الأسبوع الماضي، مقري شبكتي تلفزيون معارضتين، الأمر الذي وُوجه بتنديد واسع في تركيا وفي الخارج.
وتعكس خطوة مداهمة «نوكتا» انزعاج اردوغان من اي رأي يقول إن استمرار «حزب العدالة والتنمية» في الحكم سيجر تركيا الى مزيد من الاضطرابات.
وفي هذا الإطار، كان لافتاً ان مدينة ديار بكر، ذات الغالبية الكردية، قد شهدت فور ظهور النتائج الأولية للانتخابات مواجهات عنيفة بين المحتجين وقوات الأمن.
وانتقد صلاح الدين ديمرطاش، زعيم «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي الذي سجل تراجعاً كبيراً عن نتائج حزيران (13 في المئة مقابل اكثر بقليل من 10 في المئة) ما وصفه بالانتخابات «غير العادلة» التي جرت تحت التهديد الجهادي، لكنه أضاف أنه «انتصار كبير لنا على كل حال»، موضحاً «خسرنا مليون صوت لكننا بقينا واقفين في مواجهة المجازر (التي ترتكبها السلطة) والفاشية».
ويتفق كلام ديمرطاش مع تأكيد مراقبين دوليين، امس، ان حملة الدعاية للانتخابات البرلمانية في تركيا غير نزيهة وشابها الخوف والعنف.
وقال رؤساء البعثة المشتركة لمجلس اوروبا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في مؤتمر صحافي إن العنف كان له أثر كبير. وأشاروا الى اعتداءات وممارسة الترهيب ضد أعضاء في «حزب الشعوب الديموقراطي».
ولكن حتى الآن لم تقدم أي أحزاب شكاوى رسمية بشأن النتائج، وإن كان «حزب الشعوب الديموقراطي» قال إنه يعتزم الطعن على عدة مقاعد.
اما زعيم «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار اوغلو، فقال «نحن نحترم نتائج الانتخابات، السلطات التركية يجب ان تحترم غلبة القانون... لا أحد يجب ان يُعتبر فوق القانون».
وبرغم هذه التجاوزات فإن من غير المرجح ان تقود الانتقادات او الطعون الانتخابية الى نتيجة مغايرة، إذ بات الكل مقرّاً بأن اردوغان كرّس هيمنة «حزب العدالة والتنمية» على الحكم لأربع سنوات مقبلة.
ومع ذلك، يمكن القول إن كل القوى السياسية في تركيا قد طوت معركة الانتخابات وبدأت الاستعداد لمعركة أكبر، وربما اكثر خطورة، تتمثل في طموحات اردوغان الرئاسية.
وفي هذا الإطار، قال مصطفى سنتوب، وهو مسؤول كبير في «حزب العدالة والتنمية»: «لقد انهارت الرؤية بأن انتخابات السابع من حزيران هي رفض لمنصب الرئاسة التنفيذي».
وأضاف سنتوب، الذي سبق وقاد مساعي الحزب الحاكم لتعديل الدستور، أن «الأرقام غير كافية في تلك اللحظة لكنني أعتقد أن هذه الانتخابات تُظهر رغبة لتطبيق النظام الرئاسي. وقد يُنظر لها على أنها ضوء أخضر أو أصفر للرئاسة»، لكنه أشار الى انه لم يتضح بعد ما اذا كان الحزب الحاكم سيتمكن من إيجاد الأصوات الثلاثة عشر اللازمة لدعم الاستفتاء على الدستور الجديد.
وبرغم ذلك، فإن ثمة إجماعاً بين المراقبين على أن الطموحات الرئاسية لأردوغان قد تؤدي الى تعميق الخلافات داخل المجتمع التركي.
وفي هذا الإطار، قال الكاتب في صحيفة «جمهورييت» المعارضة كان دوندار «نحن نواجه الآن مجتمعاً منقسماً الى معسكرين يجلس اردوغان في وسطهما»، موضحاً أن المعسكرين هما «هؤلاء المستعدون للموت من أجل اردوغان، وهؤلاء الذين لم يعودوا يطيقونه. والانقسام أصبح أبدياً».
اما ناتالي مارتن، خبيرة السياسة التركية في جامعة نوتنغهام ترينت في بريطانيا، فاعتبرت ان اردوغان «اقترب خطوة من نقل النفوذ من البرلمان الى القصر الرئاسي وتعزيز سلطته بشكل دائم». وأضافت «بالرغم من أن (حزب العدالة والتنمية) لم يحصل على ما يسمى بـ (الغالبية السوبر)، التي كانت ستمكنه من تطبيق هذه الإجراءات، إلا أنه أصبح أقرب من تحقيق ذلك»، مشيرة الى ان «اردوغان حوّل الهزيمة الى انتصار خلال أشهر قليلة. أنا واثقة من أن عدداً قليلاً من الأصوات لن يوقفه الآن».
بدوره قال وليم جاكسون خبير اقتصاد الأسواق الناشئة في مؤسسة «كابيتال ايكونوميكس» إن الغالبية التي حصل عليها «حزب العدالة والتنمية» تبقى ضئيلة نسبياً ما سيؤدي الى ما يسمى بـ «الاقتصاد المعتدل»، مضيفاً أنه نتيجة لذلك «فيكون من الصعب على حزب العدالة والتنمية أن يطبق خططه لتعديل الدستور لتعزيز سلطات الرئيس، وهي الخطوة التي يخشى أن تقوي بعض التوجهات السلطوية التي ظهرت في السنوات الأخيرة لدى الرئيس إردوغان».
وفي ما يتعلق بالقضية الكردية، قال دوغو ايرغيل، الخبير في الشؤون الكردية في جامعة الفاتح في اسطنبول، إنه لا يعتقد أن الحكومة ستستأنف محادثات السلام مع «حزب العمال الكردستاني»، مشيراً الى انه «بدلاً من ذلك أتوقع أن تتحدث الحكومة مباشرة مع ممثلين عن حركات كردية اخرى من بينها حزب الشعوب الديموقراطي... وإذا لم يحدث ذلك فإن المشكلة الكردية ستتفشى بشكل مميت».
كثيرة هي التساؤلات التي تحملها نتائج الانتخابات التركية، لكن الأكثر تعبيراً عن واقع الحال في تركيا اختزلته صحيفة «زمان» التركية المعارضة بعنوان: «العودة الى المربع صفر».