افراسيانت - إيال غروس - عندما قررت المدعية في المحكمة الجنائية الدولية، فاطو بنسودة، عدم مواصلة التحقيق في حادثة سفينة مرمرة وقتل المدنيين على متنها، فعلت ذلك رغم توصلها لاستنتاج بوجود أساس معقول للإيمان بأنه ارتكبت على ظهر السفينة جرائم حرب، وفقط على أساس واقع أن خطورة الحادث لا تبرر استخدام صلاحيات المحكمة. إن قسما من هذا التقرير ـ حتى النظري منه - الذي أعدته المدعية بغرض القرار يشهد على وجود مخاطر على إسرائيل، خصوصا الآن بعدما أعلنت فلسطين عن انضمامها للمحكمة. وهكذا مثلا أصرت المدعية على أنه فيما تزعم إسرائيل أنها لم تعد تحتل قطاع غزة، فإن الموقف المقبول في الأسرة الدولية هو أن درجة وحجم السيطرة التي تواصل إسرائيل فرضها على قطاع غزة حتى بعد تنفيذ «خطة الفصل» تبقيها حتى الآن قوة الاحتلال على الأرض.
إن إغلاق ملف مرمرة بسبب قضية الخطورة نبعت من واقع أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية يقرر أن صلاحية المحكمة بشأن جرائم الحرب تتعلق خصوصا بتلك التي تنفذ كجزء من خطة أو سياسة، أو كجزء من تنفيذ واسع النطاق لجرائم. وفي هذه الحالة قررت المدعية، أن دعوى محتملة تصل جراء تحقيق في الحادث لن تكون خطيرة بما فيه الكفاية لتبرير استخدام صلاحيات المحكمة في ضوء واقع أن هذا حادث منفرد تعلق بعدد محدود من الضحايا. وشددت المدعية على أن المحكمة ليست صاحبة صلاحية على أحداث أخرى نفذت في السياق الأوسع للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني. وأشارت إلى أن وضع السكان المدنيين في غزة هو أمر يهم الأسرة الدولية، لكن ليس للمحكمة صلاحية للنظر فيه.
غير أن انضمام فلسطين هذا الأسبوع للنظام الأساسي للمحكمة يغير الصورة تماما. فالمدعية سوف تضطر لاتخاذ قرار الآن بشأن ما إذا كانت ستتعامل مع فلسطين كدولة يمكنها الانضمام للمحكمة، وهناك احتمال كبير بأن تفعل ذلك: حينما قرر المدعي العام للمحكمة في نيسان 2012 عدم إجراء فحص في الدعاوى الفلسطينية بشأن جرائم حرب ارتكبت، وفق زعمهم، أثناء عملية «الرصاص المسكوب»، فعل ذلك بعدما قرر أنه ليس واضحا له إن كانت فلسطين دولة وفق النظام الأساسي للمحكمة، لأن الدولة فقط يمكنها أن تعطي موافقتها على المحاكمة بشأن جرائم نفذت على أراضيها (والاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو الملفات التي توجه للمحكمة من جانب مجلس الأمن الدولي). وأشار المدعي حينها إلى أن فلسطين معترف بها من جانب الجمعية العمومية للأمم المتحدة كـ «مراقب» لا كدولة غير عضو، لكن إذا تغير هذا الواقع فإن الباب سيفتح أمامها لفحص ادعاءات بشأن جرائم حرب نفذت في فلسطين.
منذ ذلك الحين تغيرت الأمور: في تشرين الثاني 2012 اعترفت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بفلسطين «دولة غير عضو». صحيح أن قبول العضوية الكاملة يتطلب توصية من مجلس الأمن وهذا يواجه، كما هو متوقع، فيتو أميركيا يمنع قبول فلسطين عضواً في الأمم المتحدة، لكن هذا لا يمنع الاعتراف بها كدولة غير عضو. وفي ضوء إقرار سابق، منح وزنا كبيرا لقرارات الأمم المتحدة بهذا الشأن، يبدو أن هذا ما يكفي لدفع بمسودة للشروع بفتح ملفات ضد إسرائيليين ـــ وأيضا ضد فلسطينيين ــــ بسبب شبهات بارتكاب جرائم حرب.
وهكذا تتغير الصورة عما كانت عليه الحال في حادث سفينة مرمرة، التي وصلت للمدعية بسبب أن السفينة كانت مسجلة في جزر القمر، التي أرسلت الملف للمحكمة. والآن، يتعذر جدا على المدعية القول بأن مصير السكان الفلسطينيين يقع خارج نطاق صلاحيات المحكمة. فالاعتراف بفلسطين كدولة، إضافة إلى انضمامها إلى معاهدة روما، يتوقع أن يتم تفسيرها كتوسيع لصلاحيات المحكمة على كل الأرض الفلسطينية في الضفة والقطاع. وحجم الأحداث في الضفة والقطاع سيجعل من المتعذر أكثر إغلاق الملف بذريعة محدودية «الخطورة».
فأي القضايا يمكن أن تصل إلى عتبة المحكمة الجنائية؟ إن قتل مدنيين إسرائيليين على أيدي إسرائيل يمكن أن يستدعي التحقيق، كذلك قتل مدنيين إسرائيليين على أيدي فلسطينيين، مثلا بإطلاق الصواريخ من جانب حماس. وبالفعل فإن الخطوة الفلسطينية تنطوي أيضا على مخاطر للفلسطينيين، لكن ينبغي تذكر أنه عندما يدور الحديث عن فلسطينيين يهاجمون إسرائيليين، فإنهم حاليا تحت مخاطر كبيرة: إنهم عرضة لسياسة الاغتيالات من جانب إسرائيل أو محاكمتهم وإصدار أحكام طويلة عليهم بالسجن. بالمقابل، فإن الإسرائيليين حظوا حتى اليوم بحصانة واقعية للأعمال التي تنفذها إسرائيل ضد الفلسطينيين، والخطوة الفلسطينية جاءت لإلغاء هذه الحصانة.
وينبغي أيضا أن نتذكر أن النظام الأساسي للمحكمة، مثل معاهدة جنيف الرابعة، يحظر نقل السكان المدنيين من دولة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة، ويقرر أن فعلا كهذا يشكل جريمة حرب. وهنا تفتح كوة لإجراءات ضد قادة إسرائيليين مسؤولين عن البناء في المستوطنات. وقد زعمت إسرائيل في الماضي أن المستوطنات ليست محظورة بموجب القانون الدولي، لأن معاهدة جنيف لا تسري على المناطق، لأنها لم تكن تخضع لسيادة سابقة، لكن هذا الزعم رُفض من جانب الأسرة الدولية وخصوصا محكمة العدل الدولية في لاهاي (ليست المحكمة الجنائية الدولية التي تحاكم الأفراد، وإنما المحكمة التي تهتم بالدعاوى بين الدول وبتقديم الآراء الاستشارية) في الرأي الاستشاري الذي قدمته بشأن الجدار الفاصل الذي أقامته إسرائيل.
ويصعب توقع أن تقرر المحكمة الجنائية الدولية ـ مقرها هي الأخرى لاهاي - خلاف ذلك. هناك من يعتقدون أن المدعية والمحكمة لن يرغبا في الانشغال بهذا الأمر، بسبب أن الحديث لا يدور حول جرائم حرب خطيرة مثل قتل المدنيين. مع ذلك تم إدراج البند في معاهدة روما رغم احتجاج إسرائيل، وبوعي كامل، ولا يمكن للمحكمة تجاهله. كذلك، من الجائز أن المدعية والمحكمة سيعتقدان تحديدا أن المستوطنات ـ لا أقل من قتل المدنيين - تقع في صلب نظام الاحتلال الإسرائيلي وحرمان الفلسطينيين من حق تقرير المصير، لذلك فإن هذه حالة يحسن التركيز عليها. وذلك بسبب كونها حالة سهلة نسبيا من الناحية القضائية: في حالات الشكوى من قتل مدنيين، يمكن أن تثار أسئلة معقدة تتعلق بالتفسيرات المبدئية لـ «التناسب». وفضلا عن ذلك، في مثل هذه الحالات يمكن منع سريان صلاحية المحكمة وفق مبدأ «الإكمال» الذي يقضي بأن المحكمة لا تبحث في القضايا التي سبق للدولة المعنية أن حققت فيها بشكل مناسب بنفسها. وفي كل ما يتعلق بالشكاوى المتعلقة بمقتل مدنيين من جانب إسرائيل أثناء القتال في غزة وأحداث أخرى، يمكن لإسرائيل أن تدعي أنها أجرت تحقيقات كهذه. ولكن في كل ما يتعلق بالمستوطنات، لا قيمة لمبدأ الإكمال، إذ ان الحديث يدور عن سياسة حكومية معلنة.
وهكذا فإن الطريق لا تزال طويلة أمام الدعاوى ضد إسرائيليين. فالمدعية يمكنها أن تحاول التنصل من كل ملف يتصل بالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني باعتبارها حبة بطاطا ساخنة، بغية عدم الصعود على سكة الصدام مع الولايات المتحدة وقسم من الدول الأوروبية. بالمقابل، فإن كل الملفات التي يجري التداول فيها اليوم في المحكمة هي ضد متهمين من أفريقيا، ومكتب المدعية، الذي يفحص حاليا عددا كبيرا من الحالات (يشمل أيضا تلك المتعلقة بدول شديدة القوة مثل الولايات المتحدة وروسيا)، سيفرح لوصول ملف يفند الادعاء بأن المحكمة لا تلاحق سوى القارة السوداء.
وحتى إذا قدمت دعوى ضد إسرائيليين، فإن المحاكمة لهم لا يمكن أن تتم من دون تسليمهم للمحكمة، ما يجعل فرص حدوث ذلك ضئيلة جدا. لكن يبدو مع ذلك أن الطريق فتح على الأقل نحو ورطة قضائية ديبلوماسية محرجة. والحكم الإشكالي الذي صدر هذا الأسبوع عن المحكمة العليا، الذي صادق على أن سياسة هدم البيوت العقابية التي ينتهجها الجيش الإسرائيلي مشروعة، يشهد على الفجوة بين المواقف القانونية الإسرائيلية ـ حتى تلك التي تصادق عليها المحكمة العليا - والأعراف الدولية المقبولة: هدم بيوت المدنيين يمكن اعتبارها جريمة حرب في إطار معاهدة روما. هذا فقط مجرد مثال للمخاطر القضائية الجديدة التي يمكن للخطوة الفلسطينية أن تقود إسرائيل إليها.
إيال غروس
«هآرتس» 2-1-2015