افراسيانت - عماد الدين رائف - عشية التحضيرات الكبرى التي تجري في موسكو للاحتفال بالذكرى السبعين لانتصار الجيوش السوفياتية على ألمانيا النازية في «الحرب الوطنية العظمى 1941 -1945»، يستمر الجدل على أشدّه في كييف بعد تبني البرلمان الأوكراني «رادا»، قانوناً يساوي النظام الشيوعي السوفياتي بالنظام النازي. ويدعو مشروع القانون إلى تخليص أوكرانيا من مخلّفات نحو سبعين سنة ارتبط فيهما المنجل والمطرقة بالعلم الأوكراني. فالتشريع الذي يقضي بتغيير أسماء المدن والشوارع التي لها صلة بتلك الحقبة، ومعاقبة الترويج بأي شكل من الأشكال لكل ما يتصل بها، يجد المشرعون الروس فيه ثغرة مهمة، لمصلحة روسيا الاتحادية.
المشكلة تكمن في أن «مخلفات الماضي السوفياتي» تشمل كذلك الأراضي التي تم ضمّها إلى «جمهورية أوكرانيا السوفياتية» السابقة، مثل غاليتشينا وبيسارابيا الجنوبية وفولين وبوكوفينا الشمالية وغرب الكاربات، وصولاً إلى شبه جزيرة القرم، التي باتت منذ سنة عملياً، تحت العلم الروسي. يبدو أن المشرعين الأوكران تسرعوا في تبنيهم للقانون بصيغته الشمولية الحادة، فمن غير المعقول أن تتنازل أوكرانيا عن نحو نصف أراضيها، وهي ما تزال تذكّر بشكل شبه يومي بأن «القرم محتلة من قبل الروس»، ناهيك عن الصراع الدائر في الدونباس، والمتجه بأشكال مختلفة نحو ماريوبل وخاركوف.
وبرغم العوائق الكبيرة التي وضعها المجتمع الدولي، وحالت دون شرعنة انضمام القرم إلى روسيا الاتحادية، ومحاولات عزل شبه الجزيرة اقتصادياً ومالياً وتجارياً وملاحياً، إلا أن لروسيا الاتحادية وجهة نظر قانونية ثابتة تجاه القرم، تتبنى مفردات المجتمع الدولي نفسه، الذي وافق سابقاً على استفتاءات، كاستفتاء القرم، في أماكن أخرى من العالم. روسيا ترى أن القرم عادت إلى الوطن لا أكثر. وفي هذا الإطار نظّم «المركز الثقافي الروسي في بيروت» ، لقاء مع السفير الروسي ألكسندر زاسيبكين من أجل حوار مفتوح بشأن «الرؤية الروسية بعد عودة القرم إلى روسيا»، تخلله عرض فيلم بعنوان «القرم: الدرب إلى الوطن».
الشريط الوثائقي الطويل (145 دقيقة) المتبنّى رسمياً يعرض فيه الإعلامي أندريه كوندراشوف، بالتفصيل للأحداث من وجهة نظر روسيا، منذ لحظة اندلاع المواجهات في كييف حتى انضمام القرم إلى روسيا. الفيلم الذي حظي بملايين المشاهدات منذ ظهوره على موقع «يوتيوب» قبل ثلاثة أسابيع، يبدأ بحديث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقول فيه: «دعيتُ إلى الكرملين قادة القوات الخاصة ووزارة الدفاع، ووضعت أمامهم مهمة إنقاذ حياة الرئيس الأوكراني»، وذلك طوال ليل 22-23 شباط 2014. تفاصيل مهمة إخلاء فيكتور يانوكوفيتش بقيت سرية، ولسنة كاملة عرف بها بوتين والمشاركين فيها فقط. وقبيل أن يترك بوتين مكتبه عند السابعة من صباح 23 شباط، قال لمرؤوسيه: «الأوضاع تطوّرت في أوكرانيا، لنجد أنفسنا مضطرين إلى بدء العمل باتجاه إعادة القرم إلى روسيا. لأنه لا يمكننا أن نترك تلك المنطقة والناس الذين يقطنونها، يواجهون مصيرهم تحت رحمة القوميين». وضع بوتين تفاصيل المهمة بين أيدي قادة الأجهزة الأمنية، مؤكداً لهم «أن كل ذلك لن يحدث إلا إذا كنا مقتنعين تماماً، بأن ذلك يريده الناس القاطنون في القرم أنفسهم، فيجب علينا أن نعطي الناس حرية التعبير عن آرائهم». ويستطرد بوتين، «لو رغب سكان القرم بحكم ذاتي والبقاء ضمن أوكرانيا مع حقوق أكثر، كنا لنحترم رغبتهم، أما إن أرادوا غير ذلك فلا يمكننا تركهم».
بعد سنة كاملة على قرار بوتين، وبموازاة النقاش المستمر بين الأحزاب والقوى السياسية الروسية، تتلخص وجهة النظر المشتركة بينها بأن إعلان استقلال جمهورية القرم وانضمامها إلى الاتحاد الروسي هو الشكل القانوني لحق شعب شبه الجزيرة في تقرير مصيره. وتعتبر الإدارة الروسية أن ذلك يمثل «الطريقة الوحيدة الممكنة لحماية المصالح الحيوية لشعب القرم في مواجهة العناصر القومية المتطرفة المنتشرة في أوكرانيا، والتي لديها تأثير قوي على القرارات التي اتخذت في البلاد، ما أدّى إلى إهمال مصالح المناطق التي يقطنها الناطقون بالروسية». وتُسند روسيا موقفها على القانون الدولي. ويمكن استخلاص ست حجج قانونية تراها روسيا متوافقة تماماً مع أداء المجتمع الدولي في تطبيق القانون.
أولاً: من المعروف أنه في العام 1945، لم يكن هناك سوى 55 دولة عضو في الأمم المتحدة، أما اليوم فلدينا 193. ومعظم تلك الدول شكلها الحق في تقرير المصير. وأحدث مثال على تنفيذ ذلك الحق هو انفصال جنوب السودان والاعتراف به. فذلك الحق يأتي بموازاة المبادئ الأساسية للقانون الدولي المنصوص عليها في المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، المؤكدة بالمادة الأولى من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966)، وكذلك العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لاسيما بعد ربط ذلك الحق بمبدأ السلامة الإقليمية والحق في الاستقرار الذاتي. وصولاً إلى «إعلان فيينا ـ 1993». وتلحظ روسيا كذلك أنه خلال عقدين من الزمن فشلت أوكرانيا في حفظ ذلك الحق لشعب القرم.
ثانياً: شرعية انفصال القرم عن أوكرانيا قبل الاستفتاء الذي مهّد لانضمامها إلى روسيا، برغم مخالفة ذلك للقانون الأوكراني. ومثال ذلك، مذكرة الولايات المتحدة المقدمة إلى محكمة العدل الدولية، في قضية الامتثال للقانون الدولي، لإعلان كوسوفو الاستقلال من جانب واحد. وتنص على أن عملية إعلان الاستقلال، غالباً ما تنتهك بطبيعتها القانون المحلي. ففي حالة كوسوفو لم يكلف المجتمع الدولي نفسه عناء التحقيق في صحة الإعلان في ضوء دستور صربيا أو الدستور اليوغوسلافي. فلماذا يخوض المجتمع الدولي في دراسة الدستور الأوكراني في ما يتعلّق بالقرم؟ ولماذا يجيز إعلان الاستقلال في كوسوفو كتصرّف خارج عن إطار الحكومة الصربية ولا يجيزه في القرم تجاه الحكومة الأوكرانية، والفعل نفسه؟
ثالثاً: احترام إرادة ساكني الإقليم، فبعد سلسلة من المقارنات بين وضعَي القرم وكوسوفو، يخلص المحللون الروس إلى أن روسيا لم تتدخل، ولم يكن لديها أي تأثير على الإرادة الحرة لسكان شبه الجزيرة، بل كانت تحترم خيارات الناس في الاستفتاء.
رابعاً: إدراج سوابق قياسية تدحض روسيا عبرها طروحات الغرب، ومنها وضع جزيرة مايوت في جزر القمر ومخاض الاستقلال عن فرنسا بين العامين 1972 و1976 حين أصدرت الأمم المتحدة عدداً من القرارات التي تدين الوجود الفرنسي في الجزيرة، وصولاً إلى استفتاء العام 1999. وكذلك حالة جزر الفوكلاند (مالفيناس) والنزاع بين الأرجنيتن والمملكة المتحدة.
خامساً: ترى روسيا أنها امتثلت تجاه القرم وأوكرانيا، امتثالاً تاماً بنتائج «مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا» سنة 1975، الذي ينص على مبادئ سلامة أراضيها وحرمة الحدود، وكذلك «بمذكرة بودابست» سنة 1994، و»معاهدة الصداقة والتعاون والشراكة» بين روسيا وأوكرانيا في العام 1997. وتعتبر روسيا كذلك أنها التزمت بشكل صارم مع احترام سيادة أوكرانيا، على العكس من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اللذين تدخلا في الشأن الأوكراني خلال أعمال الشغب في كييف.
سادساً: تعتبر روسيا أن وجود قواتها المسلحة في شبه الجزيرة، وفق اتفاقات بشأن أسطول البحر الأسود، لم يؤثر على شرعية إعلان استقلال القرم. فهي لم تنتهك الاتفاق منذ توقيعه. وعديد القوات الروسية في الواقع لا يؤثر على شرعية الاستفتاء، على عكس ما جرى في كوسوفو، حيث كان ينتشر نحو أربعة عشر ألف جندي من 34 دولة، كجزء من مهمة «حلف شمال الأطلسي».
ذلك التبرير القانوني من وجهة نظر تشريعية روسية، أما الفيلم الذي يناقش اليوم، فهو عبارة عن مقابلة طويلة مع بوتين تجري على جانبها الأحداث وصولاً إلى إعلان نتائج الاستفتاء، ثم إعلان بوتين عن قراره ضم القرم ومدينة سيفاستوبل إلى روسيا الاتحادية، فيسأل كوندرشوف قبيل ختامه بوتين: «لو عاد بنا الزمن من جديد هل كنت لتتصرف على النحو نفسه مع القرم؟». يجيب بوتين: «طبعاً، وكيف يمكن التصرف على نحو مختلف؟ لم أكن لأفعل ذلك لو لم أعتقد بأننا مضطرون للتصرف على ذلك النحو. العقوبات سيئة، لكن لا يمكننا أن نبادل الناس ببعض المال أو العقود المالية.. وإن سمحنا لأنفسنا بالتصرف على ذلك النحو نخسر كل شيء. ذلك لا يعني أنه لا يجب علينا احترام القانون الدولي أو شركاءنا، بل يعني أن على شركائنا احترام روسيا وتطلعاتها».