افراسيانت - إن تفعيل مليشيات محلية في غزة لخدمة الجيش الإسرائيلي وإعدادها كـ “قوة مساعدة”، وتزويدها بسلاح ورخصة للقتل مقابل المال، والسيطرة على منطقة جغرافية، كل ذلك يعرض جنود الجيش الإسرائيلي للخطر ويجعل إسرائيل تصطدم، ليس فقط مع سكان القطاع، بل أيضاً مع المجتمع الدولي. ومثلما كشفت “هآرتس”، فإن هذه المليشيات لا تعمل فقط في تمشيط الأنفاق والمباني المشبوهة، بل تعمل أيضاً في “نشاطات عسكرية جوهرية”. بعض الضباط الذين تحدثنا معهم حذروا من أن السيطرة على هذه القوات المحلية محدودة، لأنها لا تخضع لتعليمات الجيش الإسرائيلي، بل ربما تنفذ مذبحة ويتم تحميل ضباط الجيش الإسرائيلي المسؤولية عنها.
هذه التجربة ليست جديدة، ونتائجها معروفة مسبقاً. في لبنان، شكل الجيش الإسرائيلي “جيش لبنان الجنوبي”، واستخدم إلى جانبه قوات محلية لم تكن تخضع لإطار منظم. في الضفة الغربية أيضاً، جرت محاولة فاشلة لإقامة “روابط القرى” في بداية الثمانينيات، التي رسمياً لم تعمل كمليشيا عسكرية، بل كجسم مدني هدفه إضعاف م.ت.ف وتطوير بديل سياسي يعمل على إقامة حكم ذاتي. ولكن رجال الروابط الذين تم تزويدهم بالسلاح للدفاع عن أنفسهم، استخدموه في كثير من الحالات لفرض الرعب و”إقناع” الخصوم بالانضمام إلى منظماتهم.
ليس لإسرائيل حق براءة هذا الاختراع، ومثلها كل من أنشأ وجند واستخدم مليشيات، افترض أنه يستطيع السيطرة على أفعال جنود المليشيات، وإملاء أوامر فتح النار عليهم وأعمال النهب والسلب والقتل، أو تحويلهم إلى قوة سياسية تدير المنطقة المحتلة أو تساعد في فرض الاحتلال. هذه الافتراضات تحطمت في معظم الحالات على صخرة الواقع، الذي أملته المليشيات المحلية نفسها في نهاية المطاف. الدولة التي راكمت التجربة الأكبر والأكثر مرارة في استخدام المليشيات هي الولايات المتحدة.
في تموز 2017 غرد الرئيس ترامب: “سأوقف الدفعات الخطيرة والمبذرة التي أرسلت للمتمردين في سوريا الذين يحاربون ضد الأسد”، كانت تغريدة غير دقيقة. ترامب لم يلغ كل خطط المساعدة للمتمردين، بل خطط الـ سي.آي.ايه. القوات التي شغلها البنتاغون، بالأساس قوات المتمردين الأكراد في شمال سوريا، واصلت وتواصل الحصول على التمويل. كان هذا قراراً صعباً ولكنه منطقي.
لقد تبين للإدارة الأمريكية بأن العملية لم تكلف مبالغ باهظة فحسب -مليار دولار تقريباً في أربع سنوات تم فيها استخدام هذه المليشيات، ولكن حتى بعد برنامج التدريب الكثيف وكمية السلاح التي حصلت عليها، كانت النتائج على الأرض قليلة. والأخطر أن هذه المليشيات “الأمريكية” التي حصلت على رعاية البنتاغون ورعاية ودعم الـ سي.آي.ايه، حارب بعضها بعضاً.
مثلاً، في شباط 2016 طردت المليشيات الكردية “قوات سوريا الديمقراطية”، التي شكلها البنتاغون، مقاتلي مليشيا “فرسان الحق” من مدينة مارع، على بعد 20 كم شمال حلب، التي كانت تعمل برعاية الـ سي.آي.ايه. هذه المواجهة، التي لم تكن الوحيدة بين المليشيات “الأمريكية”، ربما كان يمكن تحملها، ولكن تبين أن السلاح الكثير، وضمن ذلك صواريخ مضادة للدروع، الذي نقلته الـ سي.آي.ايه للمتمردين التابعين لها، شق الطريق لقوات “جبهة النصرة” التي كانت ما تزال فرع للقاعدة.
“جبهة النصرة” تنظيم كان يترأسه أبو محمد الجولاني، الذي انفصل عن القاعدة في 2016 وأنشأ “هيئة تحرير الشام”. منذ ذلك الحين، تخلى الجولاني عن اسمه السري وعاد إلى اسمه الحقيقي أحمد الشرع، والآن هو رئيس سوريا ويحصل على رعاية الرئيس ترامب وتركيا والسعودية. تركيا في الحقيقة هي “الرابح الأكبر” من نجاح الشرع، الذي حظي خلال سنوات على مساعدة مالية واستخبارية وعسكرية من تركيا، التي خلقت “الواجب الوطني” واعتماد الشرع على أنقرة.
لكن سوريا حتى الآن لم تتحرر بشكل كامل من سلطة المليشيات، والتحدي الكبير للشرع كان وما زال دمج المليشيات في جيش وطني واحد، وهي المهمة التي ما تزال بعيدة جداً عن التحقق. ليس فقط لأن المليشيات الدرزية والكردية هي التي تقوض الآن طموحه لتأسيس دولة سوريا الموحدة، بل عشرات المليشيات والعصابات المستقلة ما زالت تعمل في الدولة وتسيطر على أجزاء فيها.
من المفارقة أن البنتاغون والـ سي.آي.ايه والإدارة الأمريكية بشكل عام، كان ينبغي أنها تعلمت الدرس من استخدام المليشيات المحلية. حتى في الحرب بين الاتحاد السوفييتي سابقاً وأفغانستان في الأعوام 1979 – 1989 شغلت وكالة المخابرات المركزية قوات مجاهدين محليين أثبتت نجاعتها ونجحت في دفع قوات السوفييت للانسحاب من البلاد. ولكن مثلما في سوريا، واجه المشغلون الأمريكيون في أفغانستان صعوبة في السيطرة على القوات المحلية، وضع قواعد السلوك وأوامر إطلاق النار ومنع فقدان المعدات والسلاح.
عند انتهاء الحرب ضد الاتحاد السوفيتي اندلعت حرب أهلية دموية في البلاد بين القبائل والمليشيات، وهرب ملايين الأشخاص إلى باكستان وإيران ودول أخرى. في نهاية الصراع، ظهرت حركة تمرد باسم “طالبان”، التي تم تصنيفها لاحقاً بأنها منظمة إرهابية، واحتضنت أسامة بن لادن، مؤسس “القاعدة”.
إن استخدام المليشيات المحلية من قبل قوة محتلة فيه إغراء غير قليل، الذي يكمن أساسه في توفير حياة الناس من أوساط مقاتلي القوة المحتلة. ولكن مثلما تعلمت القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، فإن المليشيات قد تغير تصويب سلاحها وتطلق النار على من دربها ومولها أو حتى من أعدها لتكون قوة حاكمة بديلة.
في غزة، القصة لا تقل تركيباً وتعقيداً. ومن فهم خطر وجود المليشيات هي حماس، التي بعد فترة قصيرة من سيطرتها في القطاع في 2007، شنت حملة لتفكيك هذه المليشيات العشائرية والعائلية. هذه العائلات التي امتلكت السلاح أقامت حواجز على الطرق وحددت “مناطق أمنية” عائلية (مربعات)، التي هددت سيطرة حماس بدرجة لا تقل عن قوات حركة فتح، التي نجحت في اجتثاثها بوحشية خلال فترة قصيرة.
هذه العائلات راكمت أساس قوتها أثناء حكم ياسر عرفات، الذي عند عودته إلى القطاع وإلى الضفة بعد التوقيع على اتفاق أوسلو، أدرك بأن عليه تجنيد ثقة رؤساء العائلات الكبيرة، مثل عائلة حلس، والأسطل، والمصري ودغمش، وقيادة القبائل البدوية؛ لمواجهة معارضة الجيل الشاب. إخلاص هذه العائلات، التي كانت لها مصالح تجارية كبيرة وراكمت الأموال والنفوذ الاقتصادي حتى قبل عودة عرفات،
جنده بواسطة مناصب رفيعة في مؤسسات م.ت.ف وفي الوزارات الحكومية والبلديات، مع إعطاء ميزانيات سخية. هذه الترتيبات بدأت تتفكك في الانتفاضة الثانية عندما وجدت قيادات العائلات الكبيرة صعوبة في السيطرة على نشاطات المقاومة المسلحة للشباب، الذين فرضت عليهم الولاء لـ “فتح”، ومنعتهم من الانضمام لحماس وغيرها من التنظيمات التي أصبحت مركز جذب وتجنيد، وحل محل الولاء العائلي.
يصعب الآن تقدير مدى نفوذ وقوة العائلات الكبيرة والقبائل البدوية. ففي بيانات رسمية نشرها اتحاد العشائر والعائلات على صفحات الفيسبوك، هذا الاتحاد يعارض التعاون مع إسرائيل ومع الجيش الإسرائيلي، ويرى معظمهم أن السلطة الفلسطينية وم.ت.ف هي الممثلة الوحيدة لهم، وقد تبرأ بعضهم علناً من المليشيات التي أقامها الجيش الإسرائيلي بقيادة قادة العصابات، من بينهم ياسر أبو شباب ورامي حلس، الذين يعملون كمرتزقة.
في الوقت نفسه، الجهود التي بذلها الجيش الإسرائيلي و”الشاباك” ورئيس المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، الذي حاول في 2024 إقامة مليشيات من أبناء العائلات الكبيرة، لم تثمر حتى الآن. يمكن التقدير أنه إزاء انهيار البنية الاجتماعية في القطاع وتدمير عائلات كاملة، والتهجير الجماعي من أماكن السكن الثابتة التي خلقت أيضاً “مربعات عائلية” ومراكز قوة سياسية محلية، فقد انهارت أيضاً قواعد نفوذ رؤساء هذه العائلات والقبائل. إضافة إلى فقدان القدرة على مساعدة أبناء عائلاتهم، هم فقدوا قوتهم السياسية.
الاستنتاج هو أن إسرائيل تجد نفسها في غزة في واقع أسوأ وأخطر بكثير من الواقع الذي عملت فيه القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان. ففي هاتين الدولتين تم تشكيل حكومة مدنية محلية بالتعاون مع الاحتلال. وحتى لو لم تكتسب الشرعية المحلية واعتبرت متعاونة مع المحتل واحتاجت إلى عشرات مليارات الدولارات بتمويل أمريكي، فإنها على الأقل أعفت القوات الأمريكية من الحاجة إلى إدارة الدولة بشكل مباشر.
لا يوجد في غزة حكم محلي على أي مستوى، سواء على مستوى المحافظة أو على مستوى المدينة أو القرية، فالجيش الإسرائيلي نفسه هو الذي يستعد لإدارة القطاع مباشرة، في الوقت الذي تغيب فيه الآن أي خطة واقعية لترسيخ أجهزة إدارة وحكم بديلة. هنا قد يتطور المنحدر الزلق الذي تتحول فيه المليشيات المحلية التي جندها الجيش الإسرائيلي إلى نوع من “الإدارة المدنية” لقطاع غزة، لن يكونوا مسؤولين عن مرافقة قوافل الغذاء وتوزيعه فحسب، بل أيضاً عن تنفيذ نشاطات شرطية، وقضاء سريع، وتوزيع قسائم أرض لإقامة أماكن إيواء وتفعيل وسائل مواصلات وسيطرة على الموارد الحيوية مثل الوقود والمياه.
حجم هذه السيطرة يجبر المليشيات على تجنيد آلاف “المتطوعين”، الذين ستكون حاجة إلى تسليحهم وتمويل نشاطاتهم، لذا ستكون المسافة قصيرة إلى حرب شوارع وتصفية حسابات قاتلة مع نهب وسلب، وفي نهاية المطاف تشكيل منظمات متنافسة يحارب بعضها بعضاً، بل وتحارب أيضاً قوات الجيش الإسرائيلي. ما كان في العراق وأفغانستان وسوريا لا يمكن أن يكون مختلفاً في غزة.
تسفي برئيل
هآرتس 19/9/2025