افراسيانت - مايا روزنفيلد - عندما تكون الأداة الرئيسية للحرب هي القصف الجوي، وعندما تقصف الطائرات بلا توقف سكاناً محاصرين ولا يمتلكون وسائل دفاع، فلا يمكن أن تكون النتيجة سوى الإبادة الجماعية والدمار الشامل. الكاتب: مايا روزنفيلد
صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية تنشر مقالاً للباحثة الإسرائيلية، مايا روزنفيلد، تحدثت فيه عن الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وكيف ومتى أصبحت أمراً شرعياً لدى الإسرائيليين.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
مع بداية الشهر الثالث عشر من الحرب، تجاوز عدد القتلى في قطاع غزة حاجز 41 ألفاً. ووفق التقديرات المستندة إلى البيانات التي تم جمعها حتى الآن، يُعتقد أن ثلث القتلى هم من الأطفال، لكن عددهم الدقيق غير معروف، وحتى 31 آب/أغسطس، تم التعرف إلى 34,344 ضحية، 11,355 منهم أطفال، أي نسبتهم 33.08%.
البيانات، على الرغم من أنها لا تستطيع الكلام، فإنها تصرخ إلى السماء صرخة تهز أركان الوجود، كالبيانات التي تتحدث عن مقتل 11,355 طفلاً فلسطينياً في القطاع خلال الفترة ما بين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و31 آب/أغسطس 2024. ومن أجل قتل عدد كبير من الأطفال، يتطلب الأمر استخدام وسائل قاتلة بشكل شبه مستمر، وبوتيرة عالية جداً، ضد السكان المدنيين.
كل إنسان عاش أو تعلم عن فظائع القرن العشرين يعرف أنّ الإبادة الجماعية للسكان المدنيين هي جريمة ضد الإنسانية وانتهاك خطير للقوانين الدولية، اولتي أُنشئت لحماية الضعفاء ومنع الانزلاق إلى أسوأ ما يمكن.
ومع كل نقاط ضعفها وإخفاقاتها، تمكّنت المؤسسات الدولية، التي أُقيمت تحت مظلة الأمم المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية لضمان عدم "حدوث شيء من هذا القبيل مرة أخرى"، من خلال غرس الوعي في أجزاء واسعة من البشرية بأنّ الإبادة الجماعية للمدنيين، وخصوصاً الأطفال، هو "تابو".
لكن هذا الأمر ليس كذلك في "إسرائيل" عام 2023 - 2024، لأن هنا يتم استنثناء قطاع غزة من هذا "التابو". إنّ معظم الإسرائيليين يرون أنّه مسموح قتل الغزيين، والغياب شبه التام للتطرق إلى الإبادة الجماعية في الاحتجاجات العامة ضد الحكومة منذ 7 أكتوبر، دليل على رفع "التابو". لو لم تكن الإبادة الجماعية لغزة شرعية، لما استمرت.
إنّ قيمة حياة الفلسطينيين في تدنٍّ مستمر لدى الإسرائيليين، وسكاّن قطاع غزة والضفة الغربية يقبعون تحت الاحتلال الإسرائيلي، وعلى مدى عقود، استخدمت "إسرائيل" القوة العسكرية بشكل منهجي، والقانون العسكري والقضاء العسكري، من أجل نزع ملكية الفلسطينيين من أراضيهم، ونهب المساحات والموارد من أرضهم، وحصرهم في "مناطق سكن" صغيرة خلف الأسوار، والجدران، والحواجز، ومنعهم من كسب رزقهم والعيش من عملهم، وسلبهم الحياة الاجتماعية والسياسية العامة الحرة، وإحباط إقامة استقلالهم ومؤسساتهم الوطنية.
تسارعت عملية خفض قيمة حياة الفلسطينيين هذه بشكل أكبر في العقود الأخيرة، في ظل تجاهل "إسرائيل" التام للسلام القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية. أسست الفكرة القائلة إنّه يمكن الاستمرار في احتلال الأراضي المحتلة إلى الأبد من خلال استخدام القوة العسكرية جيشاً تتمثل مهارة قياداته وجنوده الأساسية بالسيطرة على الأراضي المحتلة وسكانها وإخضاع جميع أشكال المقاومة الفلسطينية. إنّ تنفيذ هذه المهمة على مدى فترة طويلة استدعى تصعيد الجيش للعنف الذي يمارسه، وزيادة عدد الفلسطينيين الذين يتعرضون للأذى منه.
تبرير الإبادة الجماعية للفلسطينيين بحجة أنّها "ضرورة لا يلام عليها"، انزلق بسهولة في بلعوم الجمهور، والدليل هو غياب احتجاجات ذات مغزى ضد الهجمات الإسرائيلية خلال عملية "الجرف الصامد" في صيف 2014، حيث قتل الجيش الإسرائيلي 2,202 من سكان غزة، بينهم 526 طفلاً.
ومع ذلك، على رغم أنه يمكن اعتبار نمط العمل العسكري في تلك الهجمات وشرعيتها العامة بمثابة "تمهيد" لما يحدث الآن في الحرب على غزة، فإنّ الفوارق كبيرة بين الأمرين. لقد تم إيقاف عملية "الجرف الصامد" بعد 55 يوماً بسبب الضغوط الخارجية، التي في نهايتها أُجبرت "إسرائيل" على قبول صيغة لوقف إطلاق النار مع حماس. وألحق هذا الهجوم خسائر ودماراً غير مسبوقين مقارنة بالهجمات السابقة، لكنه لم يتحول إلى حرب تدمير شاملة.
إنّ القتل الجماعي والدمار في غزة هما جزء من استراتيجية تهدف إلى إحباط إمكان التوصل إلى حل سياسي من خلال تحويل الفلسطينيين إلى رعاع.
وعندما تكون الأداة الرئيسة للحرب هي القصف الجوي، وعندما تقصف الطائرات بلا توقف سكاناً محاصَرين ولا يمتلكون وسائل دفاع، فلا يمكن أن تكون النتيجة سوى الإبادة الجماعية والدمار الشامل. ولم يكن الهجوم على قطاع غزّة يوماً دفاعاً عن النفس.