افراسيانت - عبد الحليم قنديل - كعادته وعادة رئيسه في التدليس بلا حياء، كرر المقاول الصهيوني اليهودي ستيف ويتكوف إدانته الميكانيكية لحركة حماس الفلسطينية، وادعى أنها السبب الوحيد لاستمرار حرب غزة، وأنها رفضت كل صيغ واقتراحات التهدئة، وحين ووجه ويتكوف باعتراض حتى من قناة «فوكس نيوز»، وبإشارة إلى أن حماس وافقت على النسخة الأخيرة من مقترح ويتكوف نفسه، فما كان من مبعوث السلام الأمريكي، إلا أن خرج من السياق كله، وقال إنها ـ أي حماس ـ وافقت تحت الضغط العسكري الإسرائيلي، من دون أن يتطرق إلى امتناع بنيامين نتنياهو ـ رئيس وزراء إسرائيل ـ عن الرد، وإعاقته لهدنة الستين يوما المطروحة.
وقفز ويتكوف إلى الإيهام بوعود جديدة، من نوع، إن حرب غزة قد تنتهي قبل نهاية العام الجاري، وأن رئيسه دونالد ترامب سيعقد اجتماعات لبحث الحرب الجارية في غزة، وكان ترامب نفسه، قد توقع قبلها نهاية الحرب في غضون أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، ثم عاد لسحب توقعه، وقال إنها حرب مستمرة منذ آلاف السنين، وقد لا يعرف أحد من أين أتى ترامب بآلاف سنينه تلك، اللهم إلا إذا كان يتقمص شخص نتنياهو نفسه، ويلبس قميص روحانيته وتاريخيته المزيفة، وعلى طريقة نصوص توراتية مصنوعة، تدعي أن الله وعد نبيه إبراهيم، عليه السلام، لنسلك أورث هذه الأرض من نهر مصر إلى الفرات.
قضية فلسطين التي خسرت عمقها العربي والإسلامي إلى حين، راحت تكسب معنى عالميا، وبالذات في عواصم الغرب الكبرى، التي تنفض جماهيرها عبء الولاء الأعمى للرواية الصهيونية.
وقد يصعب إقناع الجهول ترامب، أو ويتكوف بشيء من حقائق الدين، أو التاريخ أو الجغرافيا، وهم لا يقيمون وزنا لشيء من ذلك كله، والمهم عندهم وعند أمثالهم، أن يسمعوا ويطيعوا نتنياهو في ما يزعم عن إسرائيله الكبرى ووعدها الكذوب، وحتى في تفاصيل التحركات اليومية، تبنى مقترحاتهم في الوساطة الأمريكية الموهومة على أساس واحد وحيد، فالمقترح الذي وافقت عليه حركة حماس أخيرا، حمل زورا اسم مقترح ويتكوف، بينما هو في الأصل من بنات أفكار ومناورات نتنياهو، وعبر خمسة عشرة شهرا خلت، كان الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، قد افتتحها بمبادرة من ثلاث مراحل حملت اسم بايدن، الذي قال بلسانه، إنها وردته أصلا من نتنياهو، ومضت الشهور الطويلة حتى طوى العام 2024 أوراقه،
ورحل بايدن عن البيت الأبيض، ليجيء ترامب، وإلى أن بدأ تنفيذ المرحلة الأولى في 19 يناير الماضي، ثم قرر نتنياهو وقف الانتقال للمرحلة الثانية، واستأنف الحرب في مارس الماضي، تحت عنوان عربات جدعون، التي احتل فيها ـ كما يقول الإسرائيليون ـ 75% من مساحة قطاع غزة، وهدم 89% من مبانى غزة كلها، ودمر 95% من المساحات المزروعة، ورغم كل هذا الدمار وتلك الإبادة الجماعية الشاملة، فقد عاد نتنياهو إلى تكرار أسطوانته المشروخة عن النصر الساحق، الذي لم يتحقق بعد، وعاد مع حكومته الفاشية المتطرفة إلى طرح خطة استكمال احتلال غزة بالكامل، وإزالة ما تبقى من مدينة غزة، والمحافظة الوسطى من حول دير البلح، وإن كان نتنياهو يعاني من تردد قيادة جيش الاحتلال، ما دفع المجرم الغارق في جنون العظمة إلى مستنقع الحيرة، وإلى المراوحة بين قبول صفقة جزئية على طريقة مقترح ويتكوف، أو السعى لصفقة شاملة نهائية.
وبطبائع الأمور، انتقلت حيرة نتنياهو إلى البيت الأبيض، وكما كان بايدن ناطقا باسم نتنياهو، فإن ترامب يواصل الدور نفسه، ويزايد عليه، وبدعوى وساطة أمريكية، لا تقوم على نزاهتها وحياديتها شبهة دليل، فحرب نتنياهو هي ذاتها حرب ترامب، وإجرام نتنياهو هو ذاته الإجرام الأمريكي، وما يصدر عن حكومة إسرائيل في البيت الأبيض، هو ذاته ما يصدر عن حكومة نتنياهو، أما الوسطاء العرب، فليس عندهم حيلة أو حرية تصرف، ودورهم مقصور على نقل اقتراحات نتنياهو بترجمتها الأمريكية، إلى وفود حماس وأخواتها، وقد تنتهي مشاورات واشنطن إلى تحريك ما لفكرة الهدنة الموقوتة بالستين يوما لا غير، لكن نتنياهو الحريص على كسب مزيد من الوقت، لا ينوي التنازل عن شروطه الخمسة المشهورة لإيقاف الحرب نهائيا، وأولها ـ بالطبع ـ نزع سلاح حماس، ونفي قادتها العسكريين إلى خارج قطاع غزة، ثم نزع سلاح غزة بكاملها، وتأبيد السيطرة الأمنية الإسرائيلية على القطاع بأكمله، ورفض وجود أي سلطة فلسطينية تتبع حماس أو فتح، وتهجير الفلسطينيين في غزة وحشرهم في مناطق المواصي ورفح، ودفعهم إلى ترك قطاع غزة بأكمله، وتحت عناوين التهجير الطوعي، وتنفيذ خطة ريفييرا ترامب .
وبديهي أن كل هذه الشروط، لا يقبلها علنا فلسطيني ولا طرف عربي، وإن أبدت أطرافا عربية حاكمة تأييدها الضمني المستتر لكل الشروط أو بعضها، وبالذات نزع سلاح حماس ونزع سلاح غزة بأكملها، مع الزج باقتراحات مريبة، من نوع نشر قوات عربية في غزة، تكون رديفا لقوات الاحتلال الإسرائيلي، وتحت غطاء الحماية والتمهيد لإقامة دولة فلسطينية في غزة والضفة والقدس المحتلة، وتلك دعوى لا يصدقها أحد عاقل، يعرف أن كل عناصر كيان الاحتلال وليس حكومة نتنياهو فقط، ترفض بالجملة أي مسعى لإقامة أي كيان فلسطيني، حتى لو كان منزوع السلاح، وهذا موقف نتنياهو وموقف ترامب أيضا، ليس فقط في رفض إقامة دولة فلسطينية، وفرض السيادة الإسرائيلية التامة على الضفة بعد ضم القدس، مع التهجير الشامل لسكان غزة إلى خارج الحدود، ومد هيمنة إسرائيل وحضورها العسكري إلى كامل الجنوبين اللبناني والسوري، وإلى شرق الأردن وشمال السعودية، وربما إلى مصر في ما بعد، حسب خرائط إسرائيل الكبرى.
والمعنى ببساطة من كل ما سبق، أن الوساطات الأمريكية مجرد أوهام، وأنه لا تبدو من نهاية قريبة لحرب الإبادة الأمريكية الإسرائيلية في غزة ولا في غيرها، فالحروب لا تنتهي، إلا أن تتحقق أهدافها، ورغم الموات العربي المنظور، وحالة التحلل الرمى المخيمة في قصور الحكم بالذات، فليس بوسع القوات الأمريكية الإسرائيلية، أن تحرز كامل أهدافها في المدى الظاهر، والسبب ببساطة في ما تبقى من روح ونفس المقاومة العنيدة في غزة قبل غيرها، رغم حرب الإبادة الوحشية المتصلة لنحو قارب السنتين إلى الآن، ارتقى فيها أكثر من ثمانين ألف شهيد معلوم ومفقود تحت الأنقاض، وجرح فيها أضعافهم، ووقع أكثر من مليونين تحت نيران القصف والقتل اليومي بالنار وبالتجويع، وصمد الشعب الفلسطيني لكل هذا العذاب الأسطوري، ومن دون أن تكف طلائعه عن مواصلة المقاومة المذهلة، وإلى أن جاوزت خسائر جيش الاحتلال رقم العشرة آلاف بين قتيل وجريح، وتزايدت نزعات انتحار العسكريين والهروب من خدمة الاحتياط في جيش العدو، وتصاعدت أمارات قلق التجمع الإسرائيلي كله من الحرب التي لا تنتهي.
وصحيح، أن واشنطن تفتح كل خزائن مالها ومخازن سلاحها لجيش الاحتلال، كما هو صحيح أن غالب الأنظمة العربية تخلت فعليا عن القضية الفلسطينية، بل ذهب بعضها إلى دائرة التحالف مع إسرائيل والطاعة الآلية لرعاتها في واشنطن، لكن قضية فلسطين التي خسرت عمقها العربي والإسلامي في أغلبه إلى حين، راحت تكسب معنى عالميا غير مسبوق، وبالذات في عواصم الغرب الكبرى، التي تنفض جماهيرها عبء الولاء الأعمى للرواية الصهيونية، وأضافت للرواية الفلسطينية أرضا جديدة، ضغطت بها الضمائر الحية على قرارات الحكومات، ودفعتها في كثير من الحالات إلى مقاطعة إسرائيل، إضافة للنفور الشعبي المتزايد من الإسرائيليين عموما، ومعاملتهم جميعا كمجرمي حرب وسفاكي دماء، وكأن بركة الدم الفلسطيني عبرت البحار والمحيطات، وجمعت ضمائر العالم الحية في انتفاضة كبرى ضد الهمجية الأمريكية الإسرائيلية.
وبينما يرفع نتنياهو مع ترامب شعار القضاء على حماس والمقاومة الفلسطينية، فإن النتائج تبدو عكسية إلى الآن، وتبدو الدنيا الشعبية كلها، وكأنها تريد بالمقابل القضاء على إجرام نتنياهو أولا، وهو ما يرتد بآثاره على الداخل الإسرائيلي نفسه، الذي تتسع قطاعاته الرافضة لتعنت نتنياهو، ليس فقط في مظاهرات أهالي الأسرى والرهائن والقتلى الإسرائيليين، بل حتى في مجتمع الحاخامات الحريديم المتشددين دينيا، الذين تظاهروا وطالبوا ترامب بإرغام نتنياهو على وقف الحرب، وحذروا من مصائر انهيار إسرائيل من داخلها، وقد لا يلتفت الجمهور الإسرائيلي ولا حاخاماته إلى عذاب الفلسطينيين وحقوقهم ودمائهم، لكنهم هلعون ـ طبعا ـ بسبب القلق على بقاء إسرائيل ذاتها، وتلك مخاوف غريزية لها ما يبررها، فلو نجا نصف سكان غزة من هول محارق الإبادة الجارية، فقد يستطيع النصف الفلسطيني الناجي تقويض إسرائيل كلها، ولو بعد حين.