الكاتبان: حيدر عيد، آندي كلارنو
لمحة عامة
بينما تُسارع إسرائيل في مشروعها الاستيطاني الاستعماري، تزداد أهمية الفصل العنصري كإطار لفهم نظام الحكم الإسرائيلي في فلسطين التاريخية وتحديه. وتسوق نادية حجاب وانغريد جرادات غاسنر حجةً مقنعة بأن الفصل العنصري هو أفضل إطار للتحليل من الناحية الاستراتيجية، حيث أصدرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) في آذار/مارس 2017 تقريرًا رصينًا يوثق الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي، ويخلص إلى أن إسرائيل أنشأت "نظامَ فصلٍ عنصري" يضطهد الشعب الفلسطيني بأسره ويهيمن عليه.
يصنِّف القانونُ الدولي الفصلَ العنصري كجريمةٍ ضد الإنسانية، ويتيح مساءلة الدول عن أفعالها في هذا السياق. غير أن القانون الدولي محدد بقيود. فثمة قصورٌ في التعريف القانوني الدولي للفصل العنصري، إذ يركز على النظام السياسي، ولا يوفر أساسًا قويًا لانتقاد الأوجه الاقتصادية للفصل العنصري. ولمعالجة هذا الشاغل، نقترح تعريفًا بديلا للفصل العنصري كان قد انبثق من النضال في جنوب أفريقيا إبان الثمانينات وحظي بتأييد الناشطين نظرًا لمحدودية عملية إنهاء الاستعمار في جنوب أفريقيا بعد العام 1994 - وهو تعريفٌ يُقر بارتباط الفصل العنصري ارتباطًا وثيقًا بالرأسمالية.
تبين هذه الورقة السياساتية ما يمكن لحركة التحرير الفلسطينية أن تتعلمه من حالة جنوب أفريقيا، وتحديدًا الاعتراف بالفصل العنصري كنظام مقنن للتمييز العنصري وكنظام رأسمالي عنصري. وتختتم بتوصيات حول سُبل الفلسطينيين في مواجهة هذا النظام المزدوج من أجل تحقيق سلام عادل ودائم مبني على المساواة الاجتماعية والاقتصادية.
سلطة القانون الدولي وحدوده
تُعرِّف اتفاقية الأمم المتحدة الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها الفصلَ العنصري بأنه جريمة تنطوي على "الأفعال اللاإنسانية المرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية ما من البشر على أية فئة عنصرية أخرى من البشر واضطهادها إياها بصورة منهجية." ويُعرِّف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الفصلَ العنصري كجريمة تنطوي على "نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى."
وبالاستناد إلى قراءة متأنية لهذا النظام الأساسي، يحلل تقرير الإسكوا السياسة الإسرائيلية في أربعة مجالات هي التمييز الرسمي المقنن بحق المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وازدواجية النظام القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة، وحقوق الإقامة الهشة للمقدسيين الفلسطينيين، ورفض إسرائيل السماحَ للاجئين الفلسطينيين بممارسة حق العودة. ويخلص التقرير إلى أن نظام الفصل العنصري في إسرائيل يجزأ الشعب الفلسطيني ويخضعه لأشكال مختلفة من الحكم العنصري.
برزت قوة هذا التحليل في ردة فعل الولايات المتحدة وإسرائيل على التقرير، حيث ندَّد السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة بالتقرير ودعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى رفضه. وقد ضغط الأخير على ريما خلف، رئيسة اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، كي تسحب التقرير، بيد أنها آثرت الاستقالة من منصبها على سحبه.
لا يمكن المبالغة في أهمية تقرير الإسكوا. فهذه هي المرة الأولى التي تتناول فيها هيئةٌ تابعة للأمم المتحدة مسألةَ الفصل العنصري في فلسطين/إسرائيل رسميًا. فضلًا على أن التقرير يتناول السياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ككل ولا يقتصر تركيزه على مكوِّن واحد. ويدعو التقريرُ الدولَ الأعضاء ومنظمات المجتمع المدني إلى الضغط على إسرائيل، ويبين بذلك أهمية القانون الدولي كأداة لمحاسبة أنظمة مثل إسرائيل.
إن من الأهمية بمكان، بموازاة الاعتراف بأهمية القانون الدولي، أن نستحضر حدودَه والقيود المفروضة عليه، ومنها أن القوانين الدولية لا تصبح فعالة إلا بعد أن تصادق عليها الدول وتنفذها، فضلًا على أن الهيكل الهرمي لنظام الدول يمنح حق النقض لحفنةٍ من الدول. وقد تجلت هذه القيود بوضوح من خلال التحرك السريع لإسكات تقرير الإسكوا. ومع ذلك، ثمة اهتمام أكثر تحديدًا بالتعريف الدولي للفصل العنصري كما ذكر أعلاه. فبالتركيز على النظام السياسي حصرًا، لا يوفر التعريف القانوني أساسًا قويًا لنقد الجوانب الاقتصادية للفصل العنصري، ويمهد الطريق فعلا لمستقبل زاخرٍ بالتمييز الاقتصادي في مرحلة ما بعد الفصل العنصري.
الرأسمالية العنصرية وحدود تحرر جنوب أفريقيا
انخرط السود في جنوب أفريقيا في عقدي السبعينات والثمانينات في حوارات عاجلة لمحاولة فهم نظام الفصل العنصري الذي كانوا يحاربونه. وبينما حاجَّت الكتلة الأقوى داخل حركة التحرير - المؤتمر الوطني الأفريقي وحلفاؤه - بأن الفصل العنصري هو نظام هيمنة عنصرية، وأن الكفاح ينبغي أن يتركز على القضاء على السياسات العنصرية والمطالبة بالمساواة بموجب القانون، رفض الراديكاليون السود هذا التحليل. وانبثق تعريفٌ جديد من حوار حركة الوعي الأسود والماركسيين المستقلين رأى الفصل العنصري كنظام "للرأسمالية العنصرية." أصرَّ الراديكاليون السود على أن الكفاح لا بد أن يجابه الدولة والنظام الرأسمالي العنصري في الآن ذات، حيث تنبأوا بأن تظل جنوب أفريقيا بعد القضاء على الفصل العنصري منقسمةً ولا مساواة فيها ما لم تواجَه العنصرية والرأسمالية معًا.
تشهد العملية الانتقالية في جنوب أفريقيا في العقدين الماضيين لهذه الفرضية. فقد أُلغي الفصل العنصري المقنن في 1994 واكتسب السود في جنوب أفريقيا المساواة بموجب القانون، بما في ذلك الحق في التصويت، والحق في السكن في أي مكان، والحق في التنقل دون تصريح. وكان ما مرت به الدولة من انفتاح على الديمقراطية إنجازًا رائعًا. وبرهنت العملية الانتقالية في جنوب أفريقيا على إمكانية التعايش السلمي على أساس المساواة القانونية والاعتراف المتبادل. وهذا ما يجعل مثالَ جنوب أفريقيا مقنعًا جدًا للفلسطينيين الكُثر والإسرائيليين القلة الساعين إلى إيجاد بديل للتجزؤ وفشل اتفاقات أوسلو.
لكن على الرغم من اكتساء الدولة بالطابع الديمقراطي، فإن العملية الانتقالية في جنوب أفريقيا لم تعالج هياكل الرأسمالية العنصرية. فقد قدَّم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي تنازلات كبيرة أثناء المفاوضات لكسب تأييد البيض والنخبة الرأسمالية في جنوب أفريقيا. والأهم من ذلك، أن الحزب وافق على عدم تأميم الأراضي والبنوك والمناجم، بل وقَبِلَ بفرض حماية دستورية للتوزيع القائم للملكيات الخاصة بالرغم من تاريخ الاستعمار في حيازة الممتلكات. وبالإضافة إلى ذلك، تبنت حكومة المؤتمر الوطني الأفريقي استراتيجيةً اقتصادية نيوليبرالية تشجع التجارة الحرة، والصناعة الموجهة نحو التصدير، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة والخدمات البلدية. ونتيجة لذلك، لا تزال جنوب أفريقيا الخارجة من الفصل العنصري من أكثر بلدان العالم انعدامًا في المساواة.
أدت إعادة الهيكلة النيوليبرالية إلى ظهور نخبة صغيرة من السود وتنامي الطبقة الوسطى السوداء في بعض أنحاء البلاد. غير أن النخبة البيضاء القديمة ظلت تسيطر على معظم الأراضي والثروة في جنوب أفريقيا. وأدى الحد من التصنيع وتزايد نسبة السكان المضطرين إلى الاعتماد على الوظائف غير الثابتة إلى إضعاف الحركة العمالية، والإمعان في استغلال الطبقة العاملة السوداء، وظهور فائض متزايدٍ من السكان المصنفين عرقيًا الذين يعانون البطالة الهيكلية الدائمة. يبلغ معدل البطالة 35% ومن ضمنه هؤلاء الذين تخلوا عن البحث عن عمل. وفي بعض المناطق، يفوق معدل البطالة 60%، وتتصف الوظائف التي لا تزال قائمة بأنها غير مستقرة، وقصيرة الأجل، ومتدنية الأجر.
يواجه الفقراء السود أيضًا نقصًا حادًا في الأراضي والمساكن. فبدلا من إعادة توزيع الأراضي، اعتمدت حكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي برنامجًا قائمًا على السوق تساعد الدولة من خلاله السود في شراء الأراضي من البيض. وأدى ذلك إلى ظهور طبقة صغيرة من ملاك الأراضي السود الأغنياء، ولكن الأراضي المعاد توزيعها في جنوب أفريقيا لم تتجاوز 7.5% فقط من مجموع مساحة الأراضي. ونتيجة لذلك، لا يزال معظم السود في جنوب أفريقيا بلا أرض، بينما تحتفظ النخب البيضاء بملكية معظم الأراضي. وبسبب ارتفاع تكلفة السكن تضاعف عدد القاطنين في الأكواخ، والمباني المحتلة، والمستوطنات غير الرسمية، بالرغم من الإعانات الحكومية والضمانات الدستورية بتوفير السكن اللائق.
ما انفك العنصر العرقي يشكِّل أساسًا لانعدام المساواة في الحصول على السكن والتعليم والعمل في جنوب أفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري، ويرسم ملامح النمو المطرد لصناعة الأمن الخاص التي باتت من أسرع الصناعات نموًا في جنوب أفريقيا منذ التسعينات بفعل المخاوف التي تتغذى على العنصرية. فقد حولت شركات الأمن الخاص وجمعيات السكان الأثرياء ضواحي البيض إلى مجتمعات محصنة تلف منازلها الأسوار وتحيط بأحيائها البوابات وتنتشر فيها أنظمة الإنذار وأزرار الذعر والحراس المرابطون ودوريات الحراسة وكاميرات المراقبة وفرق الرد السريع المسلحة. وتعتمد أنظمة أمن السكان المخصخصة هذه على العنف والتنميط العنصري لاستهداف السود والفقراء.
ينتهي الفصل العنصري، وفقًا للقانون الدولي، بتحول الدولة عن العنصرية والقضاء على التمييز العنصري المقنن فيها. غير أن نظرةً سريعة على حال جنوب أفريقيا بعد العام 1994 تكشف عن أوجه قصور في هذه المقاربة، وتبرز أهمية إعادة النظر في تعريفات الفصل العنصري السائدة. فلم تسفر المساواة القانونية الرسمية عن تحول اجتماعي واقتصادي حقيقي، بل إن إضفاء الصبغة النيوليبرالية على الرأسمالية العنصرية قد عزَّز حالة اللامساواة التي أوجدتها قرونٌ من الاستعمار والفصل العنصري. وما يزال العنصر العرقي محركًا دافعًا للاستغلال والإهمال على الرغم من القشور الليبرالية للمساواة القانونية. ويميل المحتفون بحكومة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي إلى التغاضي عن آثار الرأسمالية العنصرية النيوليبرالية التي تشهدها جنوب أفريقيا منذ 1994.
يُغفل منتقدو الفصل العنصري الإسرائيلي محدوديةَ التحول في جنوب أفريقيا إلى حد كبير. فبدلا من معاملة الفصل العنصري كنظام رأسمالي عنصري، تعتمد معظم الانتقادات على التعريف القانوني الدولي للفصل العنصري باعتباره نظامًا للهيمنة العنصرية. والحق أن هذه الانتقادات أثمرت كثيرًا. فقد عززت التحليل بشأن الحكم الإسرائيلي، وساهمت في توسيع حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، ووفرت أساسًا قانونيًا للجهود الرامية إلى محاسبة إسرائيل. فلا ينبغي التقليل من أهمية القانون الدولي كملاذ للمجتمعات المناضلة.
غير أن إحراز تقدم أكثر على صعيد التحليل والتنظيم ممكنٌ إذا ما تعاملنا مع الفصل العنصري كنظام رأسمالي عنصري، بدلا من الاعتماد كثيرًا على التعريفات القانونية الدولية. تُميز النظم الرأسمالية العنصرية بين أرواح الناس وقيمة أعمالهم، وبالتالي تفاقم الاستغلال وتعرَّضُ الفئات المهمشة للوفاة المبكرة أو الإهمال أو الإقصاء. وهكذا يُبرِز مفهوم الرأسمالية العنصرية البُنية المشتركة بين مراكمة رأس المال والتكوين العرقي، ويؤكد استحالة القضاء على الهيمنة العرقية أو عدم المساواة الطبقية دون معالجة النظام برمته.
إن فهمنا للفصل العنصري كنظام رأسمالي عنصري يمكِّننا من أخذ القيود المفروضة على التحرير في جنوب أفريقيا على محمل الجد. لقد استفادت حركة التحرير الفلسطينية من دراسة نجاح الكفاح في جنوب أفريقيا كثيرًا؛ وبوسعها أن تستفيد أكثر إذا فهمت حدوده وقيوده. فعلى الرغم من أن السود في جنوب أفريقيا حصلوا على المساواة القانونية رسميًا، فإن عدم التصدي لاقتصاديات الفصل العنصري فرضَ قيودًا حقيقية على عملية إنهاء الاستعمار. ويمكن القول بعبارة مختصرة بأن الفصل العنصري لم ينته، وإنما أعيدت هيكلته. إن الاعتماد بشدة على التعريف القانوني الدولي للفصل العنصري يمكن أن يؤدي مستقبلًا إلى مشاكل مماثلة في فلسطين. لذا فإننا نثير هذه المسألة الآن كتنبيه آملين أن تساهم في صياغة استراتيجيات تتصدى للعنصرية والرأسمالية النيوليبرالية الإسرائيلية.
الرأسمالية العنصرية في فلسطين/إسرائيل
إن رؤية الفصل العنصري من هذا المنظور تمكننا أيضًا من إدراك أن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي يعمل الآن من خلال الرأسمالية العنصرية النيوليبرالية. لقد دأبت إسرائيل على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية على تكثيف مشروعها الاستعماري الاستيطاني تحت ستار السلام. وما تزال فلسطينُ التاريخية كاملةً تخضع للحكم الإسرائيلي الذي يقوم على تشتيت السكان الفلسطينيين. وتمكنت إسرائيلُ بفضل اتفاقات أوسلو من الإمعان في تجزئة الأرض الفلسطينية المحتلة، وتكميل حكمها العسكري المباشر بأشكالٍ من الحكم غير المباشر. وحوَّلت قطاعَ غزة إلى "معسكر اعتقال" و"محمية للسكان الأصليين" من خلال فرض حصار خانق على طراز الحصارات في القرون الوسطى، وقد وصفه ريتشارد فولك بأنه "مقدمة لإبادة جماعية" ووصفه إيلان بابيه بأنه "إبادة جماعية تدريجية." وفي الضفة الغربية، تنطوي استراتيجية إسرائيل الاستعمارية الجديدة على تركيز السكان الفلسطينيين في المنطقتين (أ) و(ب) واستعمار المنطقة (ج). ولم تؤمِّن اتفاقات أوسلو الحرية والمساواة للفلسطينيين، وإنما أعادت هيكلة علاقات الهيمنة. ويمكن القول باختصار إن عملية أوسلو عززت المشروعَ الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي بدلا من أن تعكسه.
تزامنت عملية إعادة تنظيم الحكم الإسرائيلي مع إعادة الهيكلة النيوليبرالية للاقتصاد. فشهدت إسرائيل منذ الثمانينات تحولًا جوهريًا من اقتصادٍ تقوده الدولة ويركز على الاستهلاك المحلي إلى اقتصادٍ قائم على الشركات ومدمجٍ في دوائر رأس المال العالمي. وأدرَّت عملية ُإعادة الهيكلة النيوليبرالية أرباحًا ضخمة على الشركات، بينما قوَّضت نظام الرعاية، وأضعفت الحركة العمالية، وفاقمت اللامساواة. وكانت مفاوضات أوسلو جوهريةً في هذا المشروع، حيث قال شيمون بيريز ومعه نخبُ رجال الأعمال الإسرائيليين إن "عملية السلام" ستفتح أسواق العالم العربي لرأس المال الأمريكي والإسرائيلي وتسهل اندماج إسرائيل في الاقتصاد العالمي. 3 وقد سارعت إسرائيل بُعيد أوسلو إلى توقيع اتفاقات تجارة حرة مع مصر والأردن.
استطاعت إسرائيل بفضل إعادة الهيكلة النيوليبرالية أن تنفذ استراتيجيتها الاستعماريةَ الجديدة بتقليل اعتمادها على اليد العاملة الفلسطينية إلى حدٍ كبير. وبسبب تحول إسرائيل إلى اقتصادٍ قائم على التكنولوجيا الفائقة، قلَّ الطلب على العمال الصناعيين والزراعيين. وسمحت اتفاقات التجارة الحرة للمُصنِّعين الإسرائيليين بتحويل الإنتاج من يد المقاولين الفلسطينيين المتعاقدين من الباطن إلى مناطق تجهيز الصادرات في البلدان المجاورة. حدا انهيار الاتحاد السوفيتي والنيوليبرالية اللاحقة المبنية على "عقيدة الصدمة" بأكثر من مليون يهودي روسي للبحث عن عمل في إسرائيل. وأدت إعادة الهيكلة النيوليبرالية حول مستوى العالم إلى هجرة 300,000 عامل من آسيا وأوروبا الشرقية. وباتت هذه الفئات جميعها تزاحم الفلسطينيين على ما تبقى من وظائف متدنية الأجور. وهكذا استخدمت الدولة الاستعمارية الاستيطانية إعادةَ الهيكلة النيوليبرالية في هندسة عملية التخلص من السكان الفلسطينيين.
لقد أصبحت الحياة بالنسبة للطبقة العاملة الفلسطينية غير مستقرة على نحو متزايد. فمع محدودية فرص الحصول على الوظائف في إسرائيل، ارتفعت معدلات الفقر والبطالة في الأراضي الفلسطينية. وعلى الرغم من أن السلطة الفلسطينية لطالما أيدت الرؤية النيوليبرالية لاقتصاد السوق الحر الذي يقوده القطاع الخاص والموجه نحو التصدير، إلا أنها استجابت لأزمة البطالة في البداية باستحداث آلاف الوظائف في القطاع العام.
غير أن السلطة الفلسطينية تبنت منذ العام 2007 برنامجًا اقتصاديًا نيوليبراليًا صارمًا يدعو إلى تقليل عدد العاملين في القطاع العام وتوسيع استثمارات القطاع الخاص. وعلى الرغم من هذه الخطط، لا يزال القطاع الخاص ضعيفًا ومجزأً. وقد فشلت خطط إقامة مناطق صناعية على طول الجدار الإسرائيلي غير الشرعي العابر للأرض الفلسطينية المحتلة إلى حد كبير بسبب القيود الإسرائيلية على الواردات والصادرات والتكلفة العالية نسبيًا للعمالة الفلسطينية مقارنة بتكلفة العمالة في مصر والأردن.
وعلى الرغم من أن السياسات النيوليبرالية صعَّبت الحياة أكثر على الطبقة العاملة الفلسطينية، إلا أنها ساهمت في نشوء نخبة فلسطينية صغيرة في الأرض الفلسطينية المحتلة تضم قيادة السلطة الفلسطينية ورأسماليين فلسطينيين ومسؤولين في المنظمات غير الحكومية. وكثيرًا ما يتفاجأ زوار رام الله برؤية القصور الفخمة، والمطاعم الباهظة، والفنادق الخمس نجوم، والسيارات الفارهة. وهذه ليست علاماتٌ لاقتصادٍ مزدهر، وإنما دلائلُ على تنامي الفجوة الطبقية. وعلى نحو مماثل، ظهرت طبقة بورجوازية جديدة منتسبة لحركة حماس في غزة منذ العام 2006 تعتمد في ثروتها على "صناعة الأنفاق" المتلاشية، واحتكار مواد البناء المهربة من مصر، واستيراد بضائع محدودة من إسرائيل. تراكم هذه النخب الفتحاوية والحمساوية ثروتَها من أنشطة غير انتاجية، وتفتقر تمامًا إلى رؤية سياسية. ويشير حيدر عيد إلى هذا الوضع بمسمى الأسلوة في الضفة الغربية والأسلمة في قطاع غزة.
وعلاوةً على ذلك، أصبح الانضمام إلى مرتب قوات القمع من فرص العمل القليلة المتاحة لغالبية الفلسطينيين ولا سيما الشبان. وبالرغم من أن السلطة الفلسطينية توفر بعض الوظائف في قطاعي التعليم والرعاية الصحية، فإن غالبية الوظائف متاحة ضمن الأجهزة الأمنية الفلسطينية. وكما يبين علاء الترتير، فإن هذه القوات مصممةٌ لحماية أمن إسرائيل بعدما أعيد تنظيمها تحت إشراف الولايات المتحدة بعد العام 2007. وباتت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية الجديدة تضم ما يزيد على 80,000 عنصر أمني تدربوا على يد الولايات المتحدة في الأردن، ونُشِروا في جميع أنحاء الضفة الغربية بتنسيقٍ وثيق مع الجيش الإسرائيلي. تتبادل إسرائيلُ والسلطةُ الفلسطينية المعلوماتِ الاستخباراتيةَ، وتنسقان عمليات الاعتقال، وتتعاونان في مصادرة الأسلحة. وهما لا يستهدفان الإسلاميين واليساريين فحسب، بل يستهدفون جميع الفلسطينيين المنتقدين لأوسلو. وقد سبقَ اغتيالُ الناشط باسل الأعرج مؤخرًا تنسيقٌ أمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
قطاع الإنشاءات هو القطاع الوحيد في الاقتصاد الإسرائيلي الذي حافظ على طلب ثابت نسبيًا على اليد العاملة الفلسطينية، ويُعزى السبب الرئيسي إلى التوسع في بناء المستوطنات الإسرائيلية وتشييد الجدار في الضفة الغربية. ووفقًا لدراسة مسحية أجراها مركز الديمقراطية وحقوق العاملين في 2011، فإن 82% من الفلسطينيين العاملين في المستوطنات مستعدون لترك وظائفهم إذا تمكنوا من العثور على بديل مناسب.
وهذا يعني أن وظيفتين من الوظائف القليلة المتاحة للفلسطينيين في الضفة الغربية اليوم هي إمَّا بناء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المصادرة أو العمل مع قوات الأمن الفلسطينية لمساعدة إسرائيل في قمع المقاومة الفلسطينية المناوئة للفصل العنصري.
أمّا الفلسطينيون في قطاع غزة فلا تتوفر لهم هذه "الفرص" على قلتها وسوئها. بل إن غزة تُعَد واحدة من أشد الحالات المهَندسة للتخلص من السكان. فقد حوَّل التهجير الاستعماري الاستيطاني غزةَ إلى مخيم لاجئين في 1948 حين طردت الميليشيات الصهيونية ومن بعدها الجيش الإسرائيلي ما يزيد على 750,000 فلسطيني من بلداتهم وقراهم، وبات يمثل اللاجئون 70% من سكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة، وهم تذكرةٌ حية بالنكبة وتجسيدٌ لمطلب حق العودة. وقد تمكنت إسرائيل بفضل إعادة الهيكلة السياسية والاقتصادية من خلال أوسلو من تحويل غزة إلى سجنٍ لتجميع هذا الفائض السكاني غير المرغوب فيه واحتوائه. والحصار الإسرائيلي المتنامي دليلٌ على النزع التام للصفة الإنسانية عن سكان غزة. فلا قيمة لحياة الفلسطينيين أو موتهم بالنسبة لمشروع إسرائيل الاستعماري النيوليبرالي.
وهكذا حوَّلت النيوليبرالية، بالاقتران بمشروع إسرائيل الاستعماري الاستيطاني، الفلسطينيين إلى مجموعة سكانية يمكن التخلص منها. وتمكنت إسرائيل بذلك من تنفيذ مشروعها المتمثل في حصر السكان واستعمار الأرض. إن فهم الديناميات النيوليبرالية في النظام الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي يمكن أن يساهم في تطوير استراتيجيات تتصدى للفصل العنصري الإسرائيلي ليس فقط كنظام هيمنة عنصرية بل أيضًا كنظام رأسمالي عنصري.
مواجهة اقتصاديات الفصل العنصري الإسرائيلي
تواجه حركة التحرير الفلسطينية في سياق وضع رؤية لفلسطين/إسرائيل بعد الفصل العنصري مسألةً مهمة تتمثل في كيفية تجنب المآزق التي وقعت فيها جنوب أفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري. فكما توقع الراديكاليون السود، أدى قَصر التركيز على الدولة العنصرية إلى نشوء مشاكل اجتماعية واقتصادية خطيرة في جنوب أفريقيا منذ 1994. ولا ينبغي أن ينتهي التحرير الفلسطيني "بحل" كالذي طرحه المؤتمر الوطني الأفريقي. وهذا يستوجب ألا يقتصر الاهتمام على الحقوق السياسية، بل أن يطال كذلك القضايا الصعبة المتعلقة بإعادة توزيع الأراضي والهيكل الاقتصادي لضمان تحقيق نتيجة أكثر مساواة. ومن الوسائل المهمة التي يمكن البدء بها لتحقيق ذلك مواصلةُ النقاشات حول الديناميات العملية لعودة الفلسطينيين.
ومن الأهمية بمكان أيضًا أن ندرك أن الوضعَ الراهن في فلسطين يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعمليات تعكف على إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية حول العالم. فجنوب أفريقيا وفلسطين، على سبيل المثال، تشهدان تغيرات اجتماعية واقتصادية مماثلة على الرغم من اختلاف مساراتهما السياسية اختلافًا جذريا. ففي كلا السياقين، أفضت الرأسمالية العنصرية النيوليبرالية إلى عدم مساواة شديدة، وتهميشٍ مبني على التصنيف العرقي، واستراتيجيات متطورة لحماية المتنفذين وممارسة الأنشطة البوليسية على الفقراء المصنفين عرقيًا. ويشير آندي كلارنو إلى هذا المزيج بمسمى الأبرتهايد أو الفصل العنصري النيوليبرالي.
ما فتئت حفنةٌ من الرأسماليين أصحاب المليارات تتحكم في الثروة والدخل على نحو متزايد في جميع أنحاء العالم. وبينما تنهار الطبقة الوسطى، تزداد الفجوة بين الأغنياء والفقراء اتساعًا وتصبح حياةُ أفقر الناس أكثرَ هشاشة. وبفضل إعادة الهيكلة النيوليبرالية استطاعَ بعض المنتمين لفئات خضعت تاريخيًا للاضطهاد من الانضمام إلى صفوف النخبة. وهذا يفسر ظهور النخبة الفلسطينية الجديدة في الأرض الفلسطينية المحتلة والنخبة السوداء الجديدة في جنوب أفريقيا.
وفي الوقت نفسه، أمعنت إعادة الهيكلة النيوليبرالية في تهميش الفقراء المصنفين عرقيًا برفع مستوى الاستغلال والإهمال. وأصبحت الوظائف غير ثابتة على نحو متزايد، وشهدت أقاليم كاملة تراجعًا في الطلب على اليد العاملة. وفي حين أن بعض الفئات المصنفة عرقيًا تتعرض لاستغلال مفرط في مشاغل العمل الشاق والصناعات الخدمية، فإن فئات أخرى - كالفلسطينيين - تُهمَل لتحيا حياة بطالة ودون صفة رسمية.
تعتمد أنظمة الفصل العنصري النيوليبرالية كالنظام الإسرائيلي على استراتيجيات أمنية متطورة للمحافظة على السلطة. تمارس إسرائيل السيادةَ على الأرض الفلسطينية المحتلة من خلال الانتشار العسكري والمراقبة الإلكترونية والاعتقالات والاستجواب والتعذيب. وجزَّأت إسرائيل أيضًا الجغرافيا بعزل المناطق الفلسطينية وإحاطتها بالأسوار ونقاط التفتيش وإدارتها بالإغلاقات والتصاريح. وتصدرت شركاتٌ إسرائيلية السوقَ العالمية للمعدات الأمنية المتطورة من خلال تطوير أجهزة عالية التقنية واختبارها في الأرض الفلسطينية المحتلة. غير أن أهم إضافةٍ إلى النظام الأمني الإسرائيلي هي شبكة القوى الأمنية المتيسرة بفضل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ودعم الأردن ومصر، والتي تعمل من خلال عمليات انتشار منسقة بين الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن الفلسطينية.
وكما إسرائيل، تعتمد أنظمة الفصل العنصري النيوليبرالية الأخرى على مناطق مسوَّرة، وقوات أمن خاصة وقوات أمن حكومية، واستراتيجيات بوليسية مبنية على الاعتبارات العرقية. وفي جنوب أفريقيا، تنطوي عملية فرض الأمن على تحصين الأحياء الغنية، والتوسع السريع في صناعة الأمن الخاص، والقمع الشديد الذي تمارسه الدولة على النقابات العمالية المستقلة والحركات الاجتماعية. وفي الولايات المتحدة، تنطوي عملية المحافظة على أمن ذوي النفوذ على تشييد مجتمعات مسوَّرة وجدران حدودية وسجون جماعية وترحيلات جماعية ومراقبة إلكترونية وحروب تشنها طائرات بدون طيار ونمو سريع لأجهزة الشرطة والسجون والدوريات الحدودية والجيش والمخابرات.
وعلى خلاف جنوب أفريقيا، لا تزال إسرائيل دولةً استعمارية استيطانية عدوانية. وفي هذا السياق، تشكل النيوليبرالية جزءًا من استراتيجية إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية الهادفة إلى القضاء على السكان الفلسطينيين. غير أن توليفة الهيمنة العرقية والرأسمالية النيوليبرالية أسفرت عن تنامي عدم المساواة، والتهميش العنصري، والأمننة المتطورة في بقاع كثيرة من العالم. يعكف الناشطون والحركات على مد جسور التواصل بين بؤر الكفاح ضد الفقر العنصري والممارسات البوليسية في فلسطين وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة وما وراءها، وفي هذا الصدد يمكن لفهم الفصل العنصري الإسرائيلي كشكل من أشكال الرأسمالية العنصرية أن يساهم في توسيع الحركات المناهضة للفصل العنصري النيوليبرالي العالمي. ويمكن أيضًا أن يساعد في تحويل الخطاب السياسي في فلسطين من الاستقلال إلى إنهاء الاستعمار. يحاجج فرانتز فانون في كتابه "المعذبون في الأرض" إن من مآزق الوعي الوطني أن ينتهي المطاف بحركة التحرر إلى إنشاء دولةٍ مستقلة تحكمها نخبةٌ قومية تحاكي القوة الاستعمارية. وللحيلولة دون حدوث ذلك، يحثُّ فانون على التحول من الوعي الوطني إلى الوعي السياسي والاجتماعي. إن التحدي الذي يواجه جنوب أفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري هو الانتقال من الاستقلال السياسي إلى التحول الاجتماعي وإنهاء الاستعمار. وتفادي هذا الفخ هو تحدٍ يواجه القوى السياسية الفلسطينية في نضال اليوم من أجل التحرير.
ملاحظات
:
* نشرت هذه الورقة السياساتية على موقع "شبكة السياسات الفلسطينية: الشبكة"
1. تتوفر كافة إصدارات الشبكة باللغتين العربية والانجليزية (اضغط/ي هنا لمطالعة النص بالإنجليزية). لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية, باللغة الإيطالية، أو باللغة الأسبانية, اضغط/ي هنا, هنا, أو هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
2.
مقابلة مع مدير مشروع تجديد ألكسندرا، جوهانسبرغ، جنوب أفريقيا. آب/أغسطس 2012
3. شمعون بيريز، الشرق الأوسط الجديد (نيويورك: هنري هولت، 1993)