افراسيانت - وأخيراً كلف رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان أحمد داود أوغلو، بصفته رئيس الحزب الأكبر في البرلمان، بتشكيل الحكومة التركية الجديدة.
نتائج الانتخابات التركية الأخيرة في السابع من حزيران الماضي لم تعط أي حزب الغالبية المطلقة، بحيث يتعذّر على أي حزب أن يشكل حكومة بمفرده.
والمعادلة هي التالية: أحزاب المعارضة الثلاثة، وهي «الشعب الجمهوري» و «الحركة القومية» و «الشعوب الديموقراطي» (الكردي)، تستطيع مجتمعة أن تشكل حكومة من دون «حزب العدالة والتنمية»، وأن تنال الثقة.
ولكن بما أن «حزب الحركة القومية» حسم الموضوع بالقول إنه لن يكون جزءاً من حكومة فيها، أو يدعمها الحزب الكردي، فقد سقط خيار حكومة معارضة من دون «العدالة والتنمية». كذلك فإن أي حزبين من أحزاب المعارضة الثلاثة لا يملكان معاً غالبية، تمكنهما من تشكيل حكومة جديدة.
يبقى أنه لا مفرّ من أن يكون «العدالة والتنمية» طرفاً في أي حكومة جديدة. ومثل هذا الخيار يحتاج إلى ائتلاف بين «العدالة والتنمية» وبين حزب واحد فقط من أحزاب المعارضة لتنال الثقة، حيث ينقص «حزب العدالة والتنمية» 18 نائباً فقط لهذا الغرض.
وبما أن «العدالة والتنمية» حسم أيضاً، وخلافاً لبعض التوقعات قبل الانتخابات، انه لن يدخل في ائتلاف مع الحزب الكردي، يبقى في النهاية خيار تشكيل حكومة بين «العدالة والتنمية» وأحد حزبي المعارضة: «الشعب الجمهوري» العلماني اليساري أو «الحركة القومية» اليمينية.
انتخابات رئيس البرلمان التي جرت الأسبوع الماضي كانت لتكون مؤشراً على طبيعة الائتلاف الحكومي المقبل. وكان الاحتمال أن انتخاب رئيس للبرلمان، من احد نواب حزبي «الحركة القومية» أو «الشعب الجمهوري» كان سيكون مؤشراً على طرفي الائتلاف الحكومي. لكن المفاجأة أن «حزب الحركة القومية» امتنع عن التصويت في الدورة الرابعة، ما قدّم الرئاسة على طبق من ذهب إلى «حزب العدالة والتنمية» ليبقى في سدة البرلمان، وليعيد إنتاج نفسه، بل ليمنحه معنويات لم يكن ليكسبها لولا موقف «الحركة القومية»، الذي لم يجد بعد تفسيراً مقنعاً حتى الآن عند أحد. إذ إن «الحركة القومية» كان يستطيع أن يكسب رئاسة البرلمان كجزء من صفقة تشكيل الحكومة الجديدة. لكن لم يفعل وقدّم الرئاسة إلى «العدالة والتنمية» بالمجان.
الموقف العنصري بكل معنى الكلمة من جانب «الحركة القومية» ضد الأكراد، والمتمثل بمعارضة أي مرشح لرئاسة البرلمان يؤيده «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، ولو كان قومياً تركياً متشدداً، رمى في الملعب السياسي التركي كرة سيكون لها أثرها في السياسات المقبلة.
أبدى داود اوغلو أولاً انفتاحه على الائتلاف مع احد الحزبين المعارضين، «الحركة القومية» أو «الشعب الجمهوري». وقال إنه على مسافة واحدة منهما. لكن مجرد أن يرفض «حزب العدالة والتنمية» الائتلاف مع الحزب الكردي فهذا يعكس أيضاً عنصرية إضافية، لا تختلف كثيراً عن عنصرية «الحركة القومية».
ترى أوساط اقتصادية، وبعض الأوساط السياسية، أن مشكلة تركيا الأساسية هي انعدام الثقة مع الغرب، الأميركي والأوروبي، وبالإمكان إعادة ترميم هذه الثقة عبر تشكيل حكومة إئتلافية مع القوى العلمانية الأساسية، أي مع «حزب الشعب الجمهوري». وبالفعل أبدى زعيم الحزب كمال كيليتشدار أوغلو استعداده للائتلاف مع «حزب العدالة والتنمية» ضمن سلة من الشروط، بلغ عددها 14 شرطاً.
ولكن لو افترضنا أن هذه الشروط هي للمساومة، فإن «حزب العدالة والتنمية» يتحسس من ائتلاف كهذا نتيجة المواقف القوية المنتقدة لسياسات «العدالة والتنمية»، داخلياً وخارجياً، ولا سيما في الموقف من سوريا والفساد. كما أن «الشعب الجمهوري» يريد العديد من الوزارات الأساسية، ومنها الخارجية والداخلية والعدل، وما إلى ذلك، ليكون جزءاً أساسياً من مجلس الأمن القومي وما يتخذ فيه من قرارات. ويواجه هذا التوجه تحفظاً من داود اوغلو وأيضاً من أردوغان. لكن مثل هذا الائتلاف قد يحمل لتركيا معاني كثيرة على أساس أنه ائتلاف بين أكبر مكونين، أي الإسلامي والعلماني.
وأقوى موقف من جانب «حزب الحركة القومية» نحو تشكيل حكومة ائتلافية جاء على لسان زعيمه دولت باهتشلي، الذي قال إنه لا يمكن إبقاء البلاد في حالة عدم استقرار نتيجة عدم تشكيل حكومة. ولا بد من التضحية في هذا الصدد.
التضحية هنا فسرها المراقبون على أن الحزب سيوافق على ائتلاف مع «العدالة والتنمية»، من دون شروط مستحيلة أو صعبة.
كان «حزب الحركة القومية» يضع شروط فتح ملف الفساد وتغيير السياسات الخارجية، وتولّي وزارات أساسية، والتزام أردوغان بحدود صلاحياته الرئاسية وعدم تخطّيها نحو مصادرة صلاحيات الحكومة ورئيسها، بل ترك قصره الجديد والعودة إلى المقر القديم للرئاسة.
لا يُعرف إذا دخل الحزب في خيار حكومة ائتلافية مع داود أوغلو عن أي من هذه الشروط سوف يتخلى. ولكنه في جميع الأحوال لن يكون في وضع يُحسد عليه، إذ سيكون أمام مصداقية الالتزام بخطابه السابق، ولن تنطلي على ناخبه، ولا على الناخب المحايد، مسألة أن في الموضوع «تضحية» ما. لا شك في أن الائتلافات الحكومية تتطلب تنازلات متبادلة، لكن يبدو أن «الحركة القومية» مستعدّ لأي تنازلات مهما كانت مؤلمة في حال قبل «العدالة والتنمية» وقف المفاوضات مع الأكراد، في ما يُعرَف باسم «عملية الحل». الموقف العنصري في انتخابات رئاسة البرلمان يمكن أن يترجم الآن في موقف مشابه من شروط تشكيل الحكومة.
لكن في المقابل هل سيقبل «العدالة والتنمية» بمثل هذا الوقف لـ «عملية الحل»، رغم أنها تحوّلت إلى عملية شكلية ولا تقدم فيها؟ إذا قبل داود اوغلو بهذا الشرط فهذا سيفتح أمام احتمالات سلبية جداً في المسألة الكردية. لكن داود اوغلو وحزبه ليسا بوارد تهيئة شروط انفجار المسألة الكردية بوجههما في هذه المرحلة. وبالتالي فإن احتمال التوصل إلى صيغة مبهمة، مفتوحة على تفسيرات متعددة، قد تكون مخرجاً، خصوصاً أن «الحركة القومية»، على ما يتسرّب، مستعد للتنازل كثيراً بحيث يبقى «حزب العدالة والتنمية» يمرر سياساته الحالية بأقل قدر من الخسائر التي تفرضها الانتخابات النيابية. ولعل هناك ما يجمع حزبي «العدالة والتنمية» و «الحركة القومية»، وهو العداء لأكراد سوريا، وما يتم ضخّه من تحريض ضدهم، وضد ما يُحكى عن إقامة شريط كردي في سوريا يقطع روابط تركيا مع الجغرافيا العربية، ويؤسس لإحداث نقلة نوعية في الوضع الكردي في تركيا في اتجاه الاستقلالية.
داود اوغلو يضغط لتشكيل ائتلاف، سواء مع «الشعب الجمهوري» أو «الحركة القومية»، مع تفضيله أن يكون مع «الحركة القومية». إذ إنه يريد أن يذهب إلى مؤتمر «حزب العدالة والتنمية» العام، الذي يرجح عقده في أيلول المقبل، كرئيس لحكومة جديدة وليس كرئيس مكلف فشل في تشكيلها، فجاء إلى المؤتمر بصفة رئيس الحزب فقط، حيث سيخضع لمساءلة حول أسباب عدم الفوز بالغالبية المطلقة في الانتخابات السابقة.
غير أن عاملاً مهماً لا يمكن تجاهله في كل هذه العملية، وهو موقف الرئيس. فأردوغان يبقى هو المقرر الأول والأخير، وهو كان أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة، بعد خسارة فرصة تعديل النظام من برلماني إلى رئاسي، وهو ما يكبّله دستورياً. وزاد الخسارة بأن «حزب العدالة والتنمية» فقد القدرة على الحكم منفرداً، ما يضيف قيوداً أخرى على حركة أردوغان. لذا فإن أردوغان لا يرى في المشهد السياسي سوى أحلام انطفأت.
وفي ظل عدم القدرة على تغيير الدستور، فإن جلّ همّ أردوغان في هذه المرحلة هو أن يبقى الرجل الأول في البلاد بقوة الأمر الواقع، أي ممارسة صلاحيات مطلقة بقوة الوصاية على رئيس الحكومة والتصرّف كما لو أنه في نظام رئاسي. وهذا يقضي على الأقل أن يكون «العدالة والتنمية» منفرداً في السلطة، ولو بالنصف زائداً واحداً. وهذا بدوره يتطلب الذهاب إلى انتخابات جديدة مبكرة في تشرين الثاني المقبل، على أمل أن تزيد أصوات «حزب العدالة والتنمية» ولو نقطتين، أي من 41 إلى 43 في المئة، كافيتين ليعوض فرق الـ 18 نائباً، وليعود إلى السلطة منفرداً، فيحافظ أردوغان على ما يفعله الآن من مصادرة لموقع رئيس الحكومة.
وهذا يتطلّب ان يُفشل أردوغان تشكيل الحكومة واستنفاذ مهلة الـ 45 يوماً لتبرير الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة خلال ثلاثة أشهر من تاريخ انتهاء مهلة الـ 45 يوماً، أي من 25 آب إلى 25 تشرين الثاني. ومع أن لا شيء يمكن أن يحسم في أن «حزب العدالة والتنمية» سيستعيد في انتخابات مبكرة بعضاً مما فقده (داود أوغلو يقول إن الاستطلاعات تعطيه الآن 45 في المئة) فإن الذهاب إلى انتخابات مبكرة مباشرة بعد انتخابات حزيران الماضي تعكس قلة اعتبار واحترام لخيار الناخب والنظر إليه على أنه عديم المبادئ ويمكن أن يغيّرها بسرعة.
إذا لم تتشكل حكومة إئتلافية فإن على رئيس الجمهورية، وفقاً للدستور، أن يكلف من يشكل حكومة تتمثل فيها كل الأحزاب، مهمتها الوحيدة الذهاب إلى انتخابات مبكرة، أو تشكيل داود أوغلو حكومة أقلية من حزبه بدعم الأكراد من الخارج، تكون أيضاً مهمتها الوحيدة الذهاب إلى انتخابات مبكرة.
كل هذه السيناريوهات مطروحة، ولا يمكن الجزم بأيّها سيكون هو الراجح، إذ إن حسابات بعض الأحزاب تتغير. وكيفما كانت صورة المشهد السياسي، بحكومة ائتلافية أو انتخابات مبكرة، فإن عدم الاستقرار السياسي سيكون سمة هذا المشهد خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.