افراسيانت - ميشيل كلاغاصي - ربع قرنٍ تربعت فيها الولايات المتحدة على العرش كقوةٍ عظمى, منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي, قدمت فيها نفسها كشرطيٍ وقائدٍ عسكريٍ لدول العالم, بعد أن وضعت مع بعض الأوروبيين حجر الأساس للشراكة المتوحشة التي سمحت لها بهزّ وخلخلة أنظمة الدول المستهدفة ومقايضة أمنها العسكري واستقرارها السياسي برضوخها التام, وأنه يترتب على حلفائها دعمها ماليا ً لتوسيع جهازها العسكري لضمان كسب المعارك, مقابل استمرار التقدم الصناعي والإقتصادي لحلفائها, دون المس بمكانتها المالية والإقتصادية..
لكن هزائمها العسكرية في أفغانستان والعراق ولبنان وغرقها في اليمن وتعثرها في سورية , ودخول روسيا وإيران الحرب إلى جانب الدولة السورية ضد مشروعها وأدواتها الإرهابية في سورية – قلب الشرق الأوسط -, والصعود المفاجئ للإقتصاد الروسي والصيني ولعديد الدول, وضعها في ورطة كبيرة احتاجت معها إلى تعويض خسائرها العسكرية والإقتصادية , ولترميم مكانتها وهيبتها الدولية. الرئيس ترامب ينقذ أمريكا في خمسمائة يوم...
وإذ اعتبرت نفسها دولة ً مظلومة في منظومتها وشراكاتها , وأنه يترتب على الجميع تعويضها, فكان عليها الإختيار بين الجنون والإنتحار, مرحلة ٌ صعبة أتت من تلقائها بالرئيس الأحمق- الأخرق, رجل الصفقات, الذي دخل البيت الأبيض كالثور الهائج, وأدخل العالم في دوامة الفوضى, وأعلن إنقلابه على الإتفاقات الدولية كنووي إيران ومناخ باريس وعشرات الإتفاقيات, فأطلق شعار "أمريكا أولا ً" ووعد بالإطاحة بالناتو وببناء جدار مع المكسيك وبهزيمة "داعش" وبإبتزاز دول الخليج وتقديم الحماية لها مقابل المال, وبإنسحابه من سورية و...إلخ... هكذا وبعد حوالي 500 يوما ً أمضاها ترامب في البيت الأبيض, وجد العالم نفسه أمام فوضى عارمة تتخبط أمواجها بين عناوين الحروب التجارية وخشية تحولها إلى حروبٍ عالمية..
وتحولت أدواته إلى سياسة الحصار والعقوبات, لكن دولته العميقة ففخخت سلفا ً كرسي الرئيس لتحصد نجاحه , ولتطيح به عند إنتهاء المهمة "القذرة", فكانت تحقيقات مولر, وإعترافات محاميه ومدير حملته الإنتخابية, وقد تنتهي مرحلة ترامب بعزله دستوريا ً أو عبر أحد السيناريوهات الأمريكية. قصة الحروب التجارية... أبدى دونالد ترامب تأييده للحروب التجارية وغرّد عبر ال "تويتر" مدعيا ً أن بلاده "خسرت مليارات الدولارات في العمليات التجارية"، وأنه بإمكانها "الإنتصار بسهولة", وبدأ بفرض العقوبات الإقتصادية على روسيا وتركيا وإيران وغيرها , وأخذ يهدد بالحمائية وبفرض ورفع التعريفات الجمركية متذرعا ً ب"الأمن القومي" بعدما تعرض للإنتقادات الشديدة , دون أن يكترث بالأضرار التي ألحقها بالاقتصاد الأوروبي والصيني وغيره , وافتتح بذلك حرب التجارة العالمية , فإضطرت بعض الدول للرد بالمثل , فيما أعلن بعضها الاّخر الرد عبر إجراءات مناسبة. الصين العدو التجاري الأول لترامب...
على الرغم من تعدد الساحات والجبهات التي يخوض فيها ترامب حروبه الإقتصادية , إلا ّ أنه يُدرك أهمية وقيمة الإقتصاد الصيني كمنافس أول, خصوصا ً بعد أربعون عاما ً من عملية الإصلاح والإنفتاح التي حولت الصين إلى عملاقٍ رأسماليٍ حقيقي , بالإضافة إلى انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية ما رسّخ مكانتها العالمية, وضفر عوامل نجاحها وجعل منها الإمبراطورية الإقتصادية الثانية بعد الولايات المتحدة, ومنافسها الأول في الحرب التجارية. وفي وقتٍ تُدرك فيه بكين أن محاولة ترامب للتأثير على عملتها, ورفع الرسوم والتعريفات الجمركية وفرض العقوبات على حلفائها وشركائها بداعي "الحمائية الأمريكية" هو مسٌ بقدراتها وحربٌ تجارية معلنة عليها , وتعتقد بضرورة رفع تكاليف "حمائية ترامب"، لإخضاع القطب الأمريكي وتوجهاته غير العقلانية, لكنها تعتقد في الوقت ذاته أن واشنطن خصم لا يُستهان به وأن الخلافات ستسبب الضرر لكليهما...
في وقتٍ رصدت فيه شبكة "CNN" في تقرير قول الخبير الإقتصادي "الكس ولف" : أن " الصين ستواجه عديد المشاكل الإقتصادية في حال دخولها حربا ً اقتصادية مع أمريكا ", ويعود ذلك إلى إرتفاع صادراتها إلى أمريكا بالمقارتة مع ما تستورده منها . الحرب التجارية ضرورة للإدارة الأمريكية الحالية... ففي الداخل الأمريكي يجد الخصوم والمتضررون فرصةً للتصويب على سياسة ترامب الداخلية ويحملونه تبعات التراجع في فرص العمل وبرامج الصحة وغيرها, والتي أدت بمجملها إلى تذبذب الاحتياطي الفيدرالي– بحسب تقرير صندوق النقد الدولي-, أما خارجيا ً فتبقى الخشية من تحوّل الصراع المحموم إلى حربٍ تجارية دولية , إذ يقول "بن ساس" السيناتور الجمهوري المعارض لترامب :"تعالوا نواجه الصين بخطة واضحة ونعاقبها دون أن نعاقب أنفسنا". ومن السيئ أن يستغل ترامب هيبة وقوة بلاده العسكرية والسياسية والإقتصادية ليترجم عجزها التجاري على أنه هزيمة وطنية ، ويصبّه رهانا ً للفوز بولاية ثانية عوضا ً عن سعيه لتحقيق التوازن في تبادلات السلع التجارية , فالتوازن يعقّد من استراتيجية حربه التجارية التي تقوم على هزّ وزعزعة التوازنات التجارية العالمية وتجميد نمو الإقتصاد العالمي, وتقليص حركة التجارة العالمية وبث حالة التردد على حساب اليقين في البلدان المنافسة, إذ يعتقد ترامب أن الحفاظ على جو التوتر والتعقيد وتشابك أوضاع الخصوم يدعم حمائيته "المزعومة" ضد حلفائه الأوروبيين وجيرانه الكنديين والمكسيكيين؛ لذلك فرض الضرائب على الصلب والألمنيوم, وهدد بفرض عقوبات مماثلة على صناعة السيارات الألمانية... وفرض العقوبات القاسية على روسيا وتركيا وإيران , وحمّل الصين بعد "حصولها على 500 مليار دولار لسنوات عديدة مسؤولية تعقيد العلاقات الأمريكية مع كوريا الشمالية" , وأكد أن بلاده تخوض حربا ً تجاريةً "صعبة للغاية" مع الصين, فيما أكدت الخارجية الصينية أن تصريحات ترامب تعرقل العلاقات مع بيونغ يانغ ووصفتها بال "عبثية وغير المسؤولة". بكين تحشد فريق الحرب ضد واشنطن...
فبحسب دبلوماسي صيني لوكالة رويترز فإن :"الصين ترغب بوقوف الإتحاد الأوروبي مع بكين ضد واشنطن", إذ تعتمد الإستراتيجية الصينة في مواجهة التحدي الأمريكي على الإيمان بقدراتها وإمكاناتها التي تضعها على قدر المنافسة, بما سمح لها بإنشاء كتلة مشتركة مع الإتحاد الأوروبي وتكوين جبهة متحدة لممارسة الضغوط على السياسات الأمريكية, فالإنفتاح والإنجذاب نحو أوروبا والذي أظهرته بكين منذ أعوام قليلة منع وأعاق تقدم واشنطن نحو كسب المعركة وجذب الإتحاد الأوروبي, في ظل معارضة أوروبية لقيادة أمريكية استبدادية للتجارة الحرة , في وقتٍ يقول فيه الخبير الإقتصادي المعروف "لاري هو" :" يمكن للصين أن تمارس الكثير من الضغوط الإقتصادية على أمريكا، عبر السلع غير المادية كالسياحة وأموال التعليم الجامعي والصناعات التي يستخدمها الأمريكيون أكثر من الصينيون"..
ويمكن لبكين أن تطرد الشركات الأمريكية في الصين على غرار الشركات والمتاجر الكورية الجنوبية التي أغلقتها السلطات الصينية العام الماضي, ويمكنها أن تلجأ أيضا ً إلى بيع السندات الأمريكية في حال استمر التصعيد, وهذا بالطبع سيشكل خسارة ً كبيرة لأمريكا. في يوميات الحرب التجارية – الأمريكية...اعتمد ترامب استراتيجية شن الحرب التجارية على بعض الدول بهدف إضعافها وتقوية الاقتصاد الأمريكي في اّن واحد ... وبدأ بتنفيذ وعيده بفرضه رسوما ً بنسبة 25% على واردات الصلب و10% للألمنيوم تجاه غالبية دول العالم., لكنه خص الصين بفرضه رسوما ً جمركية بنسبة 25%على 800 نوع من البضائع الصينية بقيمةٍ إجمالية تصل إلى 50 مليار دولار, تخطت الصلب والألمنيوم وشملت تقنيات الطيران وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والروبوتات والآلات.. وبالمقابل فرضت الصين رسوم جمركية بنفس النسبة والقيمة الإجمالية... وتتحرك بذات الإتجاه دول عديدة من بينها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا... في حين سحبت روسيا نصف قيمة سندات استثماراتها في أمريكا..
في وقتٍ ارتفعت فيه وتيرة التراشقات الكلامية بين ترامب ورئيس الوزراء الكندي "جاستن ترودو", أما دول الهند والصين وتركيا واليابان وروسيا فتقدمت بشكاوى ضد أمريكا لدى منظمة التجارة العالمية. ترامب يوقف الإتفاق مع الصين, و يتفق مع المكسيك , ويعد بمعاقبة كندا... بعقلية التاجر المحنك وبصلافة أخلاقه يعرف الرئيس ترامب كيف يدير دفة التفاوض ويجيد فن المرواغة في الحرب التجارية الدولية .. فقد أوعز لإيقاف المفاوضات بين الولايات المتحدة والصين منذ أيار الماضي وقال :" يريدون التحدث لكن الوقت ليس مناسبًا للمفاوضات التجارية مع الصين" ، واتجه نحو إبرام إتفاق جديد مع المكسيك أمام أعين ترودو- كندا , في وقتٍ أكد فيه الصينيون تعليقهم للمحادثات إلى ما بعد انتخابات الكونغرس في الولايات المتحدة في نوفمبر/ ت2 القادم. وفي الوقت الذي تم فيه إعلان الإتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك, وعلى أمل عرضه على كندا - العضو الثالث في اتفاقية "نافتا" للتجارة الحرة لأمريكا الشمالية -, بدا الرئيس ترامب غير مبالٍ وقال "سنرى ما إذا كانت كندا جزءاً من الصفقة", "وإذا لم يكن كذلك؟ حسنًا , سيكون لدى الولايات المتحدة والمكسيك صفقة ثنائية ، وستتم معاقبة كندا"...يبدو أن ترامب يعاقب ترودو على تراشقاته الكلامية, ويضعه في الزاوية, للموافقة على كل ما وافقت عليه المكسيك !.. وبعنجهيته المعروفة يقول :" الإتفاق التجاري الجديد مع المكسيك يلغي اتفاقية نافتا"..
فيما أكدت صحيفة ال"واشنطن بوست" أن : اتفاق ترامب مع المكسيك يشكل تغييرا ً كبيرا ً في السياسة التجارية لأمريكا لأنه استطاع إلغاء اتفاقية "نافتا" واستبدالها بإتفاقٍ ثنائي , وهذا ما دفع ترامب ليقول وعلامات الرضى على وجهه :"إنه يوم عظيم للتجارة .. إنه يوم عظيم لبلدنا"... فيما يتفائل المكسيكيون بالتوصل للإتفاق الثلاثي - مع كدنا أيضا ً- مع نهاية الإسبوع الحالي. مستقبل الصراع والتصعيد الأمريكي...يبدو أن التصريحات والمواقف التصعيدية للرئيس الأمريكي, تشي بما لا يدع مجالا ً للشك , بأنه لا نهاية ً سريعة للتوترات العالمية الحاصلة حاليا ً على المسرح الدولي وخصوصا ً مع الصين ، الأمر الذي يثير مخاوف الصينيون, إذ يرون أن الحرب التجارية الأمريكية هي مقدمة لزلزالٍ جيو- سياسي يمتد من كوريا الشمالية إلى تايوان .. الأمر الذي يدفعهم بشدة نحو توجيه رسائل الردع العسكري من خلال المناورات الروسية – الصينية القادمة... ويرى المتابعون والخبراء أنه لا يتوفر حلٌ حقيقي على المدى القريب, وأن سياسة ترامب التجارية ستؤول إلى الفشل وستعود على أمريكا بأضرار هائلة خصوصا ً في حال قررت الدول الصناعية الكبرى كروسيا والصين تشكيل اتحادها الإقتصادي , وقد تكون المستشارة ميركل قد عبّرت عن الكثيرين بقولها :" الأوروبيين لا يرغبون في دخول حرب تجارية مع الولايات المتحدة".. فالعالم يحتاج السلام ويخشى حدوث ما لا يُحمد عقباه .