افراسيانت - جميل السلحوت - الانفلات الاستيطاني في الضّفة الغربيّة المحتلة وجوهرتها القدس الشّريف ليس جديدا ولا عفويّا، بل هو منهج تربويّ وتدريبيّ ووظيفيّ منذ بداياته، وهو لا يقتصر على استباحة الأراضي الفلسطينيّة ومصادرتها والبناء عليها لاحلال المستوطنين مكان مواطنيها الفلسطينيّين، بل يتعدّى ذلك إلى استباحة حياة الفلسطينيّين وقتلهم، وحرق مزروعاتهم وبيوتهم ومساجدهم، واغلاق طرقاتهم، وحرق وتكسير سيّاراتهم تحت حماية أذرع الأمن الاسرائيليّة المختلفة، والسّرطان الاستيطانيّ المتواصل لا يشكّل متاريس استيطانيّة متقدّمة في عمق الأراضي الفلسطينيّة المحتلة في حرب حزيران 1967 فحسب، بل يتعدّى ذلك لفرض حقائق على الأرض تمنع حلّ الدّولتين، أيّ منع اقامة الدّولة الفلسطينيّة على هذه الأراضي حسب قرارات الشّرعيّة الدّوليّة، وبالتّالي منع الشّعب الفلسطينيّ من حقّه في تقرير مصيره واقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشّريف.
وبما أنّ الدّول صاحبة القرار والقادرة في الحفاظ على النّظام الدّوليّ المعمول به بعد الحرب الكونيّة الثّانية لا تزال تتعامل مع اسرائيل كدولة فوق القانون الدّولي، فإنّ هذا يشجّعها بناء حلمها الصّهيونيّ القائم على التّوسّع واحتلال أراضي الغير، ويقودها إلى ممارسة سياسىةعنصريّة واضحة ضدّ "الغوييم" غير اليهود، فعلى سبيل المثال لا الحصر سارعت حكومة نتنياهو في الأيّام القليلة الماضية إلى اقرار قانون يسمح لقواها الأمنيّة بنشر قنّاصين لاصطياد قاذفي الحجارة والزجاجات الحارقة وقتلهم، وفرض عقوبات تصل إلى السّجن لمدة عشرين عاما على قاذفي الحجارة، وفرض غرامات باهظة على ذوي الأطفال الذين يلقون الحجارة، وهذه القوانين خاصّة بالفلسطينيّين فقط، أمّا المستوطنون فهم طلقاء يقتحمون البلدات العربيّة، يحرقون المزروعات والأشجار، يعتدون على البيوت الآمنة، يقطعون الطّرقات ويحطّمون السّيارات العربيّة على مرأى ومسمع جيش الاحتلال بل تحت حمايته. والجيش نفسه الذي يقتحم البلدات العربيّة بسبب ودون سبب ويعيث فيها تحطيما وضربا واعتقالات، لم يحرّك ساكنا ضدّ المستوطنات التي انطلق منها حارقو عائلة دوابشة والطفل محمّد أبو خضير أحياء حتى الموت، ولم يهدم بيوت القتلة ولن يهدمها، والسّبب أنّ "الدّيموقراطيّة الصّهيونيّة" لها قانونان، واحد يطبّق على الفلسطينيّين والثّاني يتسامح مع اليهود. بل إنّ الشّرطة الاسرائيليّة قامت بقتل الشّاب فادي علّون في القدس بعد أن استجار بها لحمايته من المستوطنين الذين هاجموه كما يتضّح من الشّريط المصوّر للحادثة، وقام المستوطنون بركله ودوس جثمانه وهو ميّت وأمام رجال الشّرطة المتواجدين في المكان!
واسرائيل التي لا تعبأ بالقانون الدّولي، ولا بقرارات الشّرعيّة الدّوليّة، ولا بلوائح حقوق الانسان، ولا باتفاقات جنيف الرّابعة بخصوص الأراضي التي تقع تحت الاحتلال العسكري، تحكم الفلسطينيّين بقوانين عنصريّة تفوق تلك التي كانت في جنوب افريقيا زمن الحكم العنصريّ، ومع ذلك فإنّها تلقى الدّعم اللامحدود من الدّول التي يحلو لها أن تسمّي نفسها "العالم الحرّ" وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
وعنصريّة اسرائيل وقوانينها ليست خافية على الرأي العام العالميّ، وهنا تجدر الإشارة إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 الذي اعتمد في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1975 واعتبر الصهيونية "شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصريّ"
وقد جاء هذا القرار الأمميّ اعتمادا على الوقائع والأحداث التي ثبتتها اللجان المختصّة في مختلف مجالات حقوق الإنسان، بل طالب القرار دول العالم بمقاومة الأيديولوجيّة الصهيونيّة باعتبار أنّها "تشكل خطرا على الأمن والسلم العالميّين."
ورغم أن القرار ألغي في ديسمبر/كانون الأول 1991 كشرط لدخول إسرائيل في مفاوضات السّلام في مدريد، فإنّ حقوقيين يعتبرون أن إلغاءه لا يغيّر شيئا من واقع عنصريّة إسرائيل لأن الإلغاء جاء لاعتبارات سياسيّة محضة، تماما مثلما لم تغيّر اسرائيل نفسها قوانينها العنصريّة.
والانفلات الاستيطانيّ الحاليّ، وممارسات الحكومة الاسرائيليّة في المسجد الأقصى والقدس خاصّة وبقيّة الأراضي العربيّة المحتلة، يتطلب من الجامعة العربيّة ودول عدم الانحياز التّوجه إلى مجلس الأمن الدّوليّ لاستصدار قرار ملزم بتوفير الحماية الدّوليّة للشّعب الفلسطينيّ، ووضع جدول زمنيّ للانسحاب الاسرائيليّ من الأراضي الفلسطينيّة، لتمكين الشّعب الفلسطينيّ من اقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشّريف، وهذا سيحفظ حقوق دول وشعوب المنطقة، ويحفظ السّلم العالميّ أيضا.