افراسيانت - نسرين سيد احمد - من الصعب أن نتخيّل أن مهمة نقد فيلم في مهرجان سينمائي قد تتحول إلى كتابة شهادة على جريمة إبادة جماعية، وأن يتحول مقعد المشاهدة إلى مقعد عزاء ورثاء. لكن هذا بالضبط ما يفعله فيلم «صوت هند رجب» للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي الثاني والثمانين. هو ليس مجرد عمل سينمائي يطمح إلى إثارة النقاش حول شكل أو أسلوب، بل مرثية مكتملة الأركان، مكرّسة لطفلة فلسطينية في السادسة من عمرها، اختُطفت حياتها على يد الرصاص والدبابات الإسرائيلية يوم 29 كانون الثاني/يناير 2024.
القصة معروفة: هند رجب، الطفلة المحاصرة في سيارة عائلتها في حي تل الهوا جنوب غزة، محاطة بجثث أقاربها، تخاطب العالم عبر الهاتف بصوت مرتجف: «أنا خايفة، تعالوا خدوني». التسجيل الذي بثّته جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني حينها هزّ الضمير الإنساني حول العالم. لكن الفيلم لا يكتفي باستعادة الصرخة، بل يمنحها جسداً سينمائياً، يصوغ منها محوراً درامياً وأخلاقياً يجعل المشاهد شريكاً في المأساة، شاهداً على ما جرى وما يزال يجري.
اختارت بن هنية أن تجعل الصوت قلب الفيلم، محوره وبوصلته. فلا إعادة تمثيل لمشهد السيارة، ولا لقطات أرشيفية لوجه الطفلة وهي تستغيث، بل شاشة تغمرها ذبذبات الصوت. نشاهد الفيلم كأنّنا أمام وثيقة جنائية، أو ملف محفوظ في الأرشيف، لكنه في الحقيقة جرح مفتوح يقطر ألماً كلما أُعيد تشغيله. لا حاجة لأي تجميل بصري. الكلمات وحدها كافية. ارتعاشة الصوت، أنفاس الطفلة، صدى الرصاص في الخلفية، كل ذلك تعجز أي صورة عن مضاهاته. غير أن الفيلم لا يكتفي بتسليمنا التسجيل الخام، بل يحيط الصوت ببنية درامية داخل مركز اتصالات الهلال الأحمر في رام الله. نرى المتطوعين والموظفين، عمر (معتز مليحس)، رنا (سجى كيالي)، مهدي (عامر حليحل)، نسرين (كلارا خوري)، يتلقون المكالمات، يتجادلون حول ما يمكن فعله، يحاولون تهدئة الطفلة، ثم يتصدّعون تحت وطأة العجز. مسرح الأحداث عملي، كأي غرفة اتصال لوحدات إسعاف، بها مكاتب، وأجهزة كومبيوتر حديثة، شاشات تعرض خرائط رقمية وسيارات إسعاف تتحرك ببطء بين الركام. هذه البيئة اليومية الباردة تصطدم ببشاعة ما يُسمع، فيتضاعف الإحساس بالهوة بين الحياة الطبيعية والكارثة المستمرة.
في قلب الفيلم يتجلّى صراع أخلاقي مرير: عمر، الذي كان أول من تلقى اتصال عم هند المقيم في ألمانيا، وأول من اتصل بهند وسمع صوتها، يريد إرسال سيارة إسعاف بأي ثمن. مهدي، مديره في المكتب، يذكّره بأن أي سيارة تتحرك دون موافقة إسرائيلية ستُستهدف فوراً، وأن عشرات المسعفين قُتلوا سابقاً. يتصاعد التوتر بين الواجب الإنساني تجاه الطفلة المحاصرة، والواجب الإنساني الآخر المتمثل في الرغبة في الحفاظ على حياة المسعفين. ليس الخلاف شخصياً، بل انعكاس لوضع أُفرغ من كل قدرة على الفعل. تدور الأحداث في غرفة واحدة، هي مركز اتصالات الهلال الأحمر، ولا تبرحها إلا للحظات قصيرة. هنا لا أمل في النهاية. نحن نشاهد سباقاً مع الزمن نعرف سلفاً أنه خاسر. كل دقيقة إضافية على الخط تصيب المشاهد كطعنة جديدة، ولكننا نوقن تماما بأننا عاجزون مثل المتطوعين. نسمع الصوت، نترقب الخلاص، ونرجوه ونعرف أنه لن يأتي.
بن هنية مزجت سابقاً الوثائقي بالروائي، كما في فيلمها السابق «بنات ألفة». لكن في «صوت هند رجب» تبلغ هذه التقنية أقصى حدودها: فالمادة الوثائقية هنا دامغة، لا تقبل التشكيك. ونجد أنفسنا نتساءل هل من حاجة إلى تغليفها بالدراما؟
ثمة من سيجد أن الأداء الانفعالي للمتطوعين، مع لحظات الانفجار في البكاء والتوتر الانفعالي يضيف طبقة من المبالغة، قد تضعف قوة التسجيل الأصلي، بينما يكفي صوت هند الحقيقي الخائف المرتجف، دون أي إضافات درامية. وهناك من يرى العكس، وأن هذه الدراما تمنح المشاهد متنفساً، مساحة يلتقط فيها أنفاسه من هول الصوت، وتسمح للصوت نفسه بأن يُسمع بوضوح أكبر.
الحقيقة أن الفيلم يتأرجح بين هذين الحدّين. أحياناً يبدو كل تفصيل بصري، الخرائط الرقمية، المؤشرات على الشاشة، الحوارات المشتعلة، ضرورياً لإبراز الكارثة. على سبيل المثال معرفة أن طريق سيارة الإسعاف إلى موقع هند يتطلب ثماني دقائق فقط، بينما التنسيق لرحلة سيارة الإسعاف مع الصليب الأحمر والحصول على الضوء الأخضر من الجيش الاسرائيلي يستغرق ساعات وساعات. هذه معلومة علمناها من السياق الدرامي للفيلم، ولولاها لما عرفنا مدى صعوبة، بل استحالة، إنقاذ حياة الكثير من المصابين العالقين. وأحياناً أخرى نشعر بأن كل ما هو إضافي يتلاشى أمام صوت الطفلة المحاصرة بالدبابات والمحاطة بجثث أقاربها في السيارة. لكن يبقى أن هذا التأرجح نفسه جزء من تجربة المشاهدة: نحن نتأرجح مثل المتطوعين، بين الرغبة في الفعل والاصطدام بجدار العجز.
ما يميّز «صوت هند رجب» أنه لا يسعى إلى إثبات الجريمة عبر تحليل سياسي مباشر، بل يترك الصوت يقوم بالمهمة. فحين تستمع إلى طفلة تتوسل النجدة وسط جثث عائلتها، لا تحتاج إلى أي خطاب عن الوحشية الإسرائيلية، أو العدالة الدولية الغائبة. الجريمة مكتوبة في نبرة الخوف، في الصمت الفاصل بين الكلمات، في ارتعاشة الحنجرة الصغيرة، في جملة بسيطة مثل «أنا خايفة، تعالوا خدوني».
الفيلم يمنح صوتاً لمن لا صوت له ولا يُسمع عادة. أن تجعل الطفلة المتروكة لمصيرها تتحوّل إلى شاهدة أبدية، حضوراً لا يمكن محوه. هذا الفيلم شهادة سينمائية لا لهند وحدها، بل لكل الأطفال والمدنيين الذين يُقتلون في غزة بلا اسم أو صوت. وهو في الوقت نفسه إدانة لا لبس فيها للعالم الذي يواصل المشاهدة وكأنه لا يسمع. تضعنا بن هنية في بعض المشاهد أمام حائط صور لضحايا آخرين ماتوا أثناء الاتصال بخط الطوارئ. هنا يتجاوز الفيلم حالة هند الفردية ليذكّر بأن صوتها ليس وحيداً، بل هو واحد من آلاف الأصوات التي انقطعت في منتصف الجملة، بهذا يصبح الفيلم أيضاً أرشيفاً للغياب، تذكاراً جماعياً لضحايا بلا قبور مرئية.
لا شك أن «صوت هند رجب» فيلم صعب، بل قد يثير جدلاً. فالبعض سيجد في تقنياته الميلودرامية نوعاً من الابتزاز العاطفي، بينما سيراه آخرون صرخة ضرورية في وجه لامبالاة دولية مروعة. لكن أياً يكن الموقف، لا يمكن إنكار قوة التجربة. فالفيلم يفرض على مشاهديه أن يستمعوا، من البداية حتى النهاية، من دون توقف أو زر إيقاف. يجعلنا أسرى للصوت كما كانت الطفلة أسيرة في سيارتها. وهذه بالضبط قوة السينما: إنها تفرض الإصغاء حيث يريد العالم أن يصمّ أذنيه.