افراسيانت - غزة - يسرى العكلوك - في السابعة صباحا، تدق الأجراس في مدارس العالم، إيذانا باصطفاف الأطفال في طابور صباحي منظم حاملين حقائبهم، يحيّون أعلام أوطانهم ويرددون أناشيدها، بينما في الوقت نفسه، وفي الركن المنسي من العالم حيث "غزة"، ثمة أطفال عطشى، يسعون باكرا بحثا عن شربة ماء محملين بزجاجات وعبوات بلاستيكية فارغة.
شُعثا غُبرا يترقّبون "زامور" شاحنة المياه المتجولة، ومنبعثين من خيامهم وصفوف مدارسهم -التي تحولت إلى مآوٍ لنزوحهم- يصطفون طوابير لتعبئة المياه، في مشهد لا ملامح للوطن فيه إلا فتات عالق في ذاكرتهم، حين غنوا له في أعوام سابقة "الحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك
"جالونات" لا بالونات
يخرج محمد (8 أعوام) من طابور المياه بجالونين ممتلئين، ويشي العرق المتصبب من وجهه بثقل ما يحمل، إذ يبدو وزنهما أثقل منه؛ يعرج بهما تارة، ويسرع الخطى أخرى، ثم تنقطع أنفاسه فيضعهما أرضا.
سألته الجزيرة نت خلال استراحته القصيرة "هل تعبت؟"، فحدّق مجيبا "أمي وإخوتي ينتظرونني"، ثم تابع المسير، وهو اعتذار عن عدم الإجابة، وليس تبريرا لهرولته.
للأمام قليلا، يتوافد الأطفال إلى خيمة عُلقت على بابها لافتة مكتوب عليها "خيمة تعليمية"، يتلقّى فيها بعض الأطفال النازحين أبجديات المناهج الدراسية، بعدما اجتازوا تعلّم أبجديات الحرب بمفردات النار والخوف والجوع والنزوح، وينكفئ الأطفال على دفاترهم، وهم يجلسون على الأرض.
وتقول المعلمة المشرفة للجزيرة نت "نبذل جهدا مضاعفا في إيصال المعلومة، ويجد الأطفال صعوبة في استيعاب الدروس الجديدة؛ فلا بيئة ملائمة ولا نفسية مهيّأة للتعلّم".
تعليم جائع
كان لافتا مشهد الطفلة نسمة (6 أعوام) وهي تسند ورقتها على قدر حديدي وتنهمك بالكتابة، وتقاطع المعلمة المسترسلة في الشرح بسؤالها "متى ينتهي الدرس؟
لا أريد أن أتأخر على طابور التكية"، لتطوي ورقتها وتخرج على عجل وتركض ووراءها الأطفال، خشية الوصول متأخرين، فلا يجدوا ما يسدون به رمقهم من طبق الأرز بلا لحم، أو حساء العدس، أو طبق الفاصولياء المطبوخ بالماء وقليل من صلصة الطماطم، مما حصّلوه من معلبات الإغاثة.
تلك هي قائمة طعامهم التي لم تعرف معدتهم سواها خلال أشهر، فلا لحوم ولا فواكه ولا خضروات، حتى الحليب والشوكولاتة رفاهيات لا ينال منها الطفل الغزي شيئا منذ بدء الحرب.
وبينما بدأت ملامح نهش الجوع للأطفال بالظهور على أجسادهم الهزيلة ووجوههم الشاحبة، فقد وقعت الرضيعة سوار عاشور فريسة ضعيفة له، إذ إن 5 أشهر بعد ولادتها لم تكن كافية ليزداد وزنها خلالها غراما واحدا، لتبرز عظام صدرها وتبدو كهيكل عظمي.
تقول والدتها للجزيرة نت "ابنتي تحتضر، لم يزدد وزنها منذ ولدت، توقفت عن الرضاعة الطبيعة، فأنا أيضا أعيش المجاعة ولا طعام يساعدني على إرضاعها، حتى الفيتامينات والمكملات شحيحة وغير متوفرة".
أرغفة مقسمة
ليست سوار وحدها من تصارع شبح الجوع بجسدها الهزيل، بل إن أكثر من 65 ألف حالة مرضية من الأطفال وصلت إلى مشافي غزة نتيجة سوء التغذية، حسب المكتب الإعلامي الحكومي، في ظل توقف ضخ الأدوية والعلاجات.
في خيمة واحدة بمخيم التحرير بمدينة خان يونس، تتلون المعاناة، حيث تربي أم محمد المصابة بالفشل الكلوي 7 أيتام، 3 منهم مصابون بالسرطان، واثنان آخران يعانيان أمراض الكلى.
يتقاسم الجميع يوميا رغيفين من الخبز من عطاءات الجيران حولهم فيقسمونهما إلى أرباع، فلا ينهشهم الجوع فقط بل يتفشى فيهم المرض. تقول أم محمد للجزيرة نت "تؤذيني أمومتي، وأنا العاجزة عن تأمين دواء لي ولأطفالي الخمسة.. مستسلمة أنا وهم للموت والجوع والمرض دون سند".
أيتام بالآلاف
تتفنن إسرائيل في حرمان الصغار من الطفولة بمقوماتها البسيطة التقليدية، فكما تنتزع منهم عافيتهم وتمعن في تجهيلهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم، فهم لا ينالون من الحياة إلا فتاتها، فهي تنتزعهم من أحضان آبائهم وأمهاتهم وتقذفهم في أحضان الفقد واليتم، تماما كما حدث مع الطفل علي فرج (7 أعوام)، الذي تداول النشطاء مقطعا مصورا له على منصات التواصل حين قذفته قوة غارة إسرائيلية إلى سقف المنزل المجاور، وهو يلوح لأمه وللمقابلين له لإنقاذه.
يقول علي للجزيرة نت "كنت في حضن بابا وكنا نشاهد معا سبايدرمان (رسوما متحركة) غفوت حينها، ثم استيقظت وأنا فوق سطح الجيران"، فقد استشهد والده وشقيقاته الخمس دفعة واحدة، وكان ينظر إلى صورهن.
ويهمس "كنت أحب جوري كثيرا، كانت أصغر مني، كنا نلعب معا، وكانت تحبني وتطعمني قبل أن تأكل، ماتت جوري وكل أخواتي ومات بابا وجدي وجدتي وأخوالي وخالاتي، وبقيت وحيدا لأمي". وتقف أمه كجدار مكسور، تمسح دموعها وتقول "لقد أبقاني الله من أجل علي، وإن كان من شيء يمنعني من الانهيار فهو بقاؤه".
هو اغتيال للطفولة وفقدٌ مركَّب تجرعه أكثر من 26 ألف طفل فقدوا أحد والديهم أو كليهما، ولن تطمئن قلوبهم لصوت أمٍّ أو حضن أب في ذروة هذا الخوف الذي ينغمسون فيه.
لماذا تغيب معاناة أطفال غزة عن الإعلام الأميركي؟
واشنطن- بينما كان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة على رأس القضايا الخارجية التي يتناولها الإعلام الأميركي على مدار العام الماضي عبر عشرات التقارير الإخبارية، ومقالات الرأي في الصحف والمواقع الإخبارية المتنوعة، تراجعت بشدة تغطية تطورات الحرب بعد مرور أكثر 18 شهرا على بدئها عقب عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ومع وجود "تقصير هيكلي" في التغطية الإعلامية الأميركية لما يجري في غزة بسبب قبول الصحفيين الأميركيين عدم الوجود في القطاع، والاكتفاء بالعمل من داخل إسرائيل، أو عن طريق مساعدين وباحثين فلسطينيين في غزة، تخضع أغلب وسائل الإعلام الأميركية لضغوط اللوبي اليهودي، أو تتحفظ بسبب قوة علاقات البيت الأبيض بالحكومة الإسرائيلية، وتتردد أغلب أدوات الإعلام في إعطاء المعاناة الإنسانية، خاصة التي يتعرض لها أطفال غزة، الاهتمام المستحق.
ضغط اللوبي اليهودي
في 27 ديسمبر/كانون الأول الماضي، نشرت صحيفة نيويورك تايمز، على صدر صفحتها الأولى، صور أطفال من قطاع غزة ممن أجلتهم منظمات إنسانية دولية للعلاج في الخارج، بعد أن فقدوا واحدا أو أكثر من أطرافهم من الأيدي والأرجل.
وخصصت الصحيفة أكثر من صفحتين لعرض صور ملونة لـ16 طفلا تعرضوا لإصابات خطيرة خلال الحرب، وعن عمليات النقل الجوي لهم وللمرافقين من ذويهم، التي جاءت نتيجة مفاوضات مضنية بين منظمات الإغاثة وعدة حكومات، بما في ذلك إسرائيل ومصر وإيطاليا. وفصَّلت الصحيفة؛ كيف تم بتر أطراف بعض الأطفال لإنقاذهم، وكيف سيحمل كثير منهم ندوبا على أجسادهم مدى حياتهم.
وقوبل التقرير بعاصفة غضب من المنظمات اليهودية التي اتهمت الصحيفة بعدم وضع الإطار الصحيح لقصص الأطفال ومسؤولية حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عما جرى لهم.
وتعد هذه القصة استثناء؛ إذ فشل الإعلام الأميركي في التعامل مع الشهداء الفلسطينيين، خاصة من الأطفال، على أنها قضية تستحق التغطية الإخبارية على قدم المساواة مع القتلى الإسرائيليين.
كما أنه ومع استمرار منع الاحتلال دخول الصحفيين الأجانب إلى غزة، حتى خلال فترات الهدنة المؤقتة التي شهدها القطاع، لم تعترض كبريات وسائل الإعلام الأميركية على ذلك، واكتفت بالتغطية من خلال شبكات مراسليها المنتشرين داخل إسرائيل، وفي كثير من الأحيان يصطحب الجيش الإسرائيلي صحفيين أميركيين يسمح لهم بالاطلاع على ما يراه مهما من وجهة النظر الإسرائيلية.
وأكد مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق لشؤون الشرق الأوسط، السفير ديفيد ماك ، أنه "بالرغم من ضعف تغطية الإعلام الأميركي لمعاناة أطفال غزة الجياع وسوء التغذية تحت الحصار الإسرائيلي، لا تزال بعض الوسائل وخاصة المقرو
ءة مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست، تقدم تغطية جيدة إلى حد معقول للمعاناة الإنسانية واسعة النطاق للفلسطينيين في غزة".
أسباب سياسية
ومنذ شهرين، تفرض إسرائيل حصارا شاملا على غزة، ولم تسمح بدخول أي من المساعدات الغذائية والإنسانية أو السلع التجارية، وهي أطول فترة إغلاق تفرضها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ويقول برنامج الأغذية العالمي إنه مستعد لنقل ما يكفي من المساعدات إلى غزة لإطعام جميع السكان لمدة تصل إلى شهرين، بينما أكدت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أن لديها نحو 3 آلاف شاحنة مليئة بالمساعدات للقطاع، وكلاهما ينتظر رفع إسرائيل حصارها والسماح بإدخال هذه المعونات.
من جانبه أصدر مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض بيانات تدعم سيطرة إسرائيل على تدفق المساعدات الإنسانية كورقة مساومة لإجبار حماس على إطلاق سراح المزيد من المحتجزين الإسرائيليين لديها. وفي الأسبوع الماضي، رفض السفير الأميركي في إسرائيل، القس مايك هاكابي، نداءات من مسؤولي الشؤون الإنسانية للضغط على الاحتلال لفتح المعابر.
واعتبر خبير الشؤون الإستراتيجية ومدير مؤسسة دراسات دول الخليج جورجيو كافيرو، أن الحكومة الإسرائيلية مصممة على قتل وطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من غزة، ويشكل منع دخول الإمدادات الغذائية والإنسانية إلى غزة جزءا من هذه الأجندة.
كما سهَّلت إدارة ترامب "بشكل إجرامي" سلوك الإبادة الجماعية هذا، واصطفت واشنطن تماما مع تل أبيب فيما يتعلق بالحملة الإسرائيلية في غزة.
وأكد كافيرو أن لدى "الولايات المتحدة نفوذ هائل على إسرائيل، ولكن لأسباب سياسية لا تستخدمه لإجبارها على السماح بدخول الغذاء والإمدادات الإنسانية إلى القطاع".
قيود إسرائيل
وعن أسباب عدم ضغط إدارة ترامب على إسرائيل للسماح بإدخال الغذاء والإمدادات الإنسانية إلى غزة، اعتبر السفير ماك أنه "في حين مالت إدارة بايدن إلى قول الأشياء الصحيحة بشأن السماح بدخول الغذاء والمساعدات الإنسانية إلى غزة، لكنها لم تدعمها بوقف إمدادات الأسلحة إلى إسرائيل أو تقديم دعم سياسي للفلسطينيين في الأمم المتحدة، إلا أن إدارة ترامب لا تدلي حتى بالتصريحات الصحيحة".
وتابع "يرجع ذلك جزئيا إلى الإرهاق من القضايا بعدما استمرت لفترة طويلة، حيث كان هناك دعم سياسي محلي أميركي متزايد للفلسطينيين، ويريد ترامب نفسه نهاية سريعة للأزمة، حتى على حساب استمرار موت النساء والأطفال الفلسطينيين الذين يواجهون المجاعة وغيرها من التهديدات لسلامتهم".
إلا أن السفير ماك ذكر أن "الكثير من الأميركيين يحصلون على أخبارهم من التلفزيون والإذاعة والإنترنت التي تفتقر إلى الموارد اللازمة لتوفير تغطية كافية، ويرجع ذلك جزئيا إلى القيود التي تفرضها السلطات الإسرائيلية على دخول وسائل الإعلام إلى غزة، إضافة للخطر الذي يتعرض له الصحفيون على الأرض جرَّاء الهجمات العسكرية الإسرائيلية".
ونشرت الإذاعة الوطنية (إن بي آر)، الأربعاء، تقريرا عما يعيشه أطفال غزة من معاناة داخل مستشفى "جمعية أصدقاء المريض"، وأبرزت أن العديد منهم يواجه سوء التغذية بدرجات حادة وشديدة، وهو ما يضعف أجهزتهم المناعية ويوقف نموهم. ونقل التقرير شهادة أطباء متخصصين يؤكدون أن بعض الأطفال أصبحوا مثل الهياكل العظمية بسبب سوء التغذية.
وأورد التقرير تأكيد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، لأنصاره في إسرائيل في وقت سابق من أبريل/نيسان الماضي بقوله "اسمعوني جيدا، لن تدخل حبة قمح واحدة إذ انتهى بها المطاف في أيدي حماس". حيث تتهم إسرائيل الحركة بالسيطرة على توزيع المساعدات، وتنفي منظمة الأمم المتحدة ذلك.
وأشار التقرير إلى أن الأمم المتحدة تشير إلى أن نصف سكان غزة، أي حوالي مليون شخص، يتناولون الآن وجبة واحدة فقط يوميا من المطابخ الخيرية، التي بدأت أيضا في الإغلاق بسبب نفاد الإمدادات.
تحت الركام
حرب أتت على الطفولة فأفرغتها من محتواها، حتى أوقات لهو الأطفال تعج بسيرة الموت، فهنا يلعب باسل مع شقيقته مها أمام الخيمة، يدفنان الدمية في الرمال، ثم يحفران لانتشالها، يحملها باسل قائلا "لقد أنقذتها من تحت الركام"، وتكمل مها اللعبة "إنها شهيدة يا باسل.. تعال نلعب جنازة".
فالحرب ورّثت الأطفال آلاما عميقة لا تُرى بالعين المجردة، وأسكنت داخلهم صدمات نفسية، ظهرت جليا في سلوكياتهم العدوانية أو في مظاهر اضطراب الصدمة الواضحة التي يعاني منها 72% من الأطفال في غزة، كما يقول المختص النفسي عمر وليد، الذي أوضح للجزيرة نت أبرز مظاهر الاضطراب لدى الأطفال بحسب شهادته من الفزع الليلي والتبول اللاإرادي والتعلق المرضي بالوالدين أو عصيان أوامرهم.
عجز الطب النفسي
وفي ظل إغلاق المعابر منذ بداية مارس/آذار الماضي ومنع دخول الأدوية اللازمة للأمراض النفسية، فإن انتكاسة كبيرة حدثت مع الأطفال الذين يتلقون علاجات دورية كمرضى التوحد والصرع والاكتئاب، بينما يبذل المختصون النفسيون ما يستطيعونه من محاولات لترميم الأرواح الصغيرة التي مزّقتها الحرب، من خلال تنقلهم بين الأطفال في مراكز الإيواء واللجوء.
ويقول وليد "نقدّم إسعافا نفسيا أوّليا للأطفال بعد الصدمات، ونحاول إشراكهم في مجموعات تنشيطية ضمن جلسات للتفريغ النفسي، كما نعقد لقاءات تثقيفية للأهالي لتعريفهم بكيفية التعامل مع المشكلات السلوكية للأطفال".
وفي ذروة هذا الخراب النفسي، فإن علم النفس يخلو من طرق للتعامل مع طفل أُجبر على جمع أشلاء والديه في كيس أو دفن إخوته، أو من رأى النار تُذيب لحم ذويه، ومن حوصر في لقمة عيشه أو مات لحرمانه من الدواء أو نام ببطن تقرقر، في طفولة معذبة حفرت ندوبا حيّة على وجه الإنسانية جمعاء.